المقابر ليست مكانا للدفن أو السكن وإنّما للحياة أيضا، ففـي المقابر سنجد محال بقالة، وورش تصليح، وباعة ألبان وحلوى، سنجد «خناقات صغيرة»، لكن الأكثر دهشة أن نجد عُمالا يُفككون لمبات كهرباء لفرح شعبي!
إنّ فكرة دخول زوجين إلى الدنيا وسط احتفال بهيج فوق آلاف الخارجين منها، تبدو لوحة شديدة التناقض والغرابة، لكنها ملمح من ملامح المدينة، المدينة التي تأكل سكانها مبتسمة!
هذه اللقطة المكثفة التي تخترقُ القلب بدبوسها الحاد، تظهرُ بجلاء ضمن المجموعة القصصية الجديدة «ثلاثة طوابق للمدينة»، للقاص المصري هشام أصلان، دار الشروق، التي كانت رفـيقتي فـي الطائرة العائدة بنا من القاهرة إلى مسقط.
وليس من الغرابة أن تُجسد المجموعة مشاعري الشخصية تجاه مدينة مُعقدة فـي طبقاتها وتاريخها وبشرها، ربما لأنّني قرأتها فـي وقت كان السحر المُركب لمدينة القاهرة العصية على الفهم بكل تناقضاتها العارمة يستحوذُ عليّ، فكنتُ على موعد آخر مع استعادة عميقة لضجيجها وفوضاها، عبورا فـي اليومي البسيط الذي يمور فـيها ويُغير وجهها.
مجموعة قصصية تضجُ بالحركة وأضواء النيون، تضج بالحزن الخافت، بالشحوب الذي لا يُعطل الابتسام، وبكل ما يجرح الليل وينساب على عجل، فالمدن تكبر أيضا وتشيخ، فتغدو غير ما كنا نألفه فـي طفولتنا البعيدة.
ليست وحدها المدن التي تنمو، فالمكتبات - التي تكونت بعناية بالغة عبر السنين - تنمو أيضا، لدرجة أنّها قد تفـيض على الشقق الضيقة، فتصيبُ الحيرة العارمة من يرث مكتبة هائلة مُخبأة فـي صناديق، بين ما يمكن الاحتفاظ به أو التخلص منه، لا سيما أن المكتبة ليست مجرد كتب، إنّها ذاكرة كاملة، لكنها مُعرضة طوال الوقت لمخاطر التلف أو المطر الذي قد يغمرها!
كل ما نستعيده من طفولتنا البعيدة يبدو مثاليا، فالأرض كانت فارغة ومُحاطة بالغيطان، وقطعة اللحم كانت تبقى ملفوفة بقطعة قماش قرب الشباك دون أن تفسد، الأمر ينطبق أيضا على البشر، فقلّة الفلوس لم تنجح - فـيما مضى- فـي قفل ضحكة زينب.
لكن النخل بات يستبدل ثمره بأكياس البلاستيك المشتبكة بها، بينما الضوء المنعكس عليها يجعلها مصابيح ملونة. «الوسعاية» صالحة فـي الصيف للطائرات الورقية وملائمة للهو، لكنها فـي الشتاء غير آمنة للمارين فرادى.
المدينة تتغير، الشوارع والمباني، المقابر القريبة تصبح بعيدة ويصعب التعرف عليها، لكثرة المباني التي تزاحمها. الإضاءة الملونة تُفسد الطبيعة الأثرية للأمكنة. إنّنا فـي رحلة، حيث يمضي السارد فـي الأمكنة، سور مجرى العيون، ومسجد محمد علي، وقلعة صلاح الدين، وكوبري قصر النيل.. والنصب التذكاري للجندي المجهول، وميدان رابعة العدوية.. ونحن بصفتنا قراء نمضي فوقها أيضا بخيالنا، يُعرج على الأحداث التي تُغير روح المدينة، فلا شيء يمكن أن يجرحها كما قد يفعل تفجير كنيسة أو تفتيت رأس أحدهم!
ينتمي السارد إلى الحي الشعبي، فـيشعر أنّه جزء من تكوينه الشخصي. الشخصيات من حوله تحتفظُ بحرارة حزنها بين حوائط غرفها. الغرباء الذين يتبدى لنا أنّهم مشاريع قتلة - لفرط بساطتهم - ما يلبثون أن يبتسموا رغم البؤس. الحنين ذاته يدفع السارد لأن يستعيد الطفل الذي كانه يوما، واقفا أمام الفاترينة، مُدققا فـي الأحذية مرصوصة الكعوب العالية، ناظرا لدرابزين السلم الذي تتسع دوائره وصاحب البدلة الرمادية الذي يبتسم باكيا. للمدن انعكاسات ظاهرة فـي البشر، هنالك تحولات تُصيب الفتاة التي تُحبُّ وهي صغيرة، صورتها القديمة على الفاترينة تُحرض المشاعر الأولى الغامضة، لكنها الأخرى فـي صيرورة الزمن تشيخ فتفـيض ترهلاتها فـي جلبابها. يأخذ الحنين طابع تذكر العادات القديمة، كشرب اللبن الطبيعي بعد حلبه من الجاموسة أو تناول قطع الدهن النيء من جسم الحيوان فور ذبحه. تلك العادات مقارنة بشرب اللبن الصناعي الذي يُوفر استمتاعا أقل وقلقا أشد.. تمثل قلق التحولات التي يُكابدها بشر المدن الحديثة.
كلما انتهينا من قراءة قصّة، نعود لقراءتها من البداية مجددا، لأنّ هشام أصلان ينثرُ إشاراته الخفـية كبذور سرية، فتنمو وتتشابك لتؤدي غرضها ضمن انكشاف تدريجي لطبقات المدينة أو «طوابقها»، تلك التي تضيق وتتشابك كغابة ثمّ ما تلبث أن تتسع وتتمدد.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
0 تعليق