أنا والذكاء الاصطناعي

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كتبت هذا المقال بعد مكالمة أستطيع أن أصفها بالمستفزة، استطاع فـيها الطرف الآخر استفزازي بسؤال لم أتوقع أن أُسأل عنه، خاصة من أكاديمي له باع طويل فـي التعليم والتدريس: «لماذا تدفعون مقابل كتابة المقالات فـي جريدتكم؟» لم أفهم مغزى السؤال فـي البداية، إلا أنه سرعان ما أوضحه قائلًا: «الذكاء الاصطناعي اليوم قادر على كتابة مئات المقالات يوميًا وفـي مختلف المجالات، لستم بحاجة إلى تكليف الجريدة مبالغ طائلة لكتّاب ومحللين قد لا يُقرأ ما يكتبونه، اكتفوا بتوليد الأفكار من مولدات الذكاء الاصطناعي وانشروا ما شئتم منها».

اعترف أن المكالمة هزّتني من الأعماق، كيف يمكن الاستغناء عن كتّاب الرأي والمحللين واستبدال وجهات نظرهم وتحليلاتهم بتحليلات غير بشرية؟ أو لنُعِدْ طرح السؤال من زاوية أخرى: هل يمكن الاستغناء عن كتّاب الرأي والمحللين واستبدال وجهات نظرهم وتحليلاتهم بوجهات نظر وتحليلات غير بشرية؟ قد تكون الإجابة عن هذا السؤال فـي الوقت الحالي صعبة، رغم أن بعض إرهاصاتها بدأت تلوح فـي الأفق، خاصة فـي مجال الصحافة، حيث أصبحنا نعتمد فـي كثير من الوظائف على الذكاء الاصطناعي التوليدي، لا سيما فـي التدقيق اللغوي والمراجعة، وحتى فـي بعض عمليات التحرير والكتابة التي تتم تحت إشراف المحررين، كما استفدنا منه فـي مجالات توليد الصور والفـيديو والصوت وغيرها من الاستخدامات الصحفـية والإعلامية، التي لا أنكر أنها ساعدت فـي تحسين بيئة العمل، وزيادة الإنتاجية، وتجويد المحتوى، لكن ما يطرحه صديقي الأكاديمي يُعدّ أمرًا جديدًا لم يكن يخطر ببال أي مسؤول عن الصحافة.

طلبت المساعدة من مولدات الذكاء الاصطناعي وطرحت السؤال نفسه: «هل يمكن للذكاء الاصطناعي كتابة المقالات والتحليلات الصحفـية والاستغناء عن الكتّاب من بني البشر؟» سأشارككم حرفـيًا ما قاله لي «تشات جي بي تي» سؤال صديقك فـي غاية الأهمية، وهو جزء من النقاش العالمي حول تأثير الذكاء الاصطناعي على الصحافة وكتابة المقالات التحليلية.

الذكاء الاصطناعي قادر على كتابة مقالات الرأي والتحليل، لكنه يفتقر إلى التجربة الشخصية، والرؤية العميقة، والإبداع البشري، دوره يكمن فـي دعم الصحفـيين، لكنه لن يلغيهم، بل سيدفعهم للتركيز على الأصالة والابتكار.

هنا شعرت ببعض الراحة، رغم أنني كنت على يقين بهذه الإجابة. فقد أخبرت بها الأستاذ الأكاديمي، وأوضحت له أن منطقه هذا يستدعي إلغاء الإبداع والتجارب الشخصية، تمامًا كما أكتب أنا هذا المقال بناءً على تجربتي الشخصية وليس استنادًا إلى تلقين أو إملاء من الذكاء الاصطناعي. وكما قلت لمحدثي، فإن تصوره لوعي الآلة وإبداعها يمكن أن يسلب الإنسان شيئًا فشيئًا جوهر إبداعه وخياله الحقيقي، فإن كنا اليوم نتحدث عن إلغاء العنصر البشري فـي كتابة المقالات والتحليلات، فسيُمتدّ هذا الأمر ليطال تأليف الكتب ونظم الشعر وتدوين العلوم المختلفة، ولن نكون بحاجة مستقبلًا إلى أدباء، أو شعراء، أو مفكرين، أو كتّاب يشاركونا تجاربهم الذاتية من خلال إنتاجاتهم المتنوعة.

من خلال تجربة شخصية، أستطيع القول إن من أدمن الاعتماد على مولدات الذكاء الاصطناعي فـي كثير من الإنتاجات البشرية لا يمكن تصنيفه ضمن فئة الكسالى أو غير المبدعين، ولكن يمكن وضعه فـي خانة الاعتماد المفرط على التقنية، فالإدمان على استخدام الذكاء الاصطناعي فـي المجالات الإبداعية قد يؤدي إلى تراجع القدرة على التفكير النقدي، والابتكار، والكتابة الأصيلة. والإفراط فـي استخدام هذه الأدوات، خاصة فـي المجالات التي تتطلب لمسة بشرية، قد يقلل من قدرة الفرد على التعبير عن ذاته بطرق فريدة، ومع ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يوفر أفكارًا أو مسودات أولية، لكن الفكرة أو التحليل النهائي لا يزال بحاجة إلى تدخل الإنسان ليمنحه العمق والرؤية التي لا يمكن للآلة توفـيرها.

بالعودة إلى ما طرحه صديقي الأكاديمي، وبعد تمحيص وتفكير طويلين، أرى أن مولدات الذكاء الاصطناعي قد تتمكن فـي المستقبل من إنتاج نصوص تشبه الإبداع البشري، أو لنقل إنها ستحاكي خيالات العقل البشري، لكن تبقى قدرتها على تحقيق محاكاة كاملة للعقل البشري أمرًا صعبًا -على الأقل فـي الوقت الراهن- فالإنسان هو الوحيد القادر على فهم المشاعر والتجارب الإنسانية العميقة، وهو من يستطيع التعبير عن تلك التجارب من خلال كتاباته.

ختامًا، لا نزال بحاجة إلى الكتّاب والمحللين، لأنهم ليسوا مجرد ناقلين للمعلومات، بل هم من يصوغونها فـي سياقات إنسانية وفكرية معقدة، ويقدمون تحليلات مبنية على مشاعر وتجارب شخصية تختلف من فرد إلى آخر.

وإلى أن يأتي ذلك اليوم، ستظل مقالاتنا -نحن الكتّاب البشريين- تُنشر فـي كل مكان، تحمل بصمتنا وأفكارنا التي لا يمكن للآلة أن تسلبها منا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق