احتفى المصريون والعمانيون معا بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته السادسة والخمسين، وهو أول معرض يقام في العالم العربي (١٩٦٩)، حينما أقيم على أرض المعارض بالجزيرة على نيل القاهرة لأول مرة، وكان الدكتور ثروت عكاشة وزيرًا للثقافة والدكتورة سهير القلماوي رئيسة للهيئة المصرية للكتاب، وقد اقترح الوزير على الرئيس جمال عبد الناصر إقامة معرض للكتاب لأول مرة يشارك فيه الناشرون المصريون والعرب والأجانب من مختلف دول العالم، وأعتقد أن المعرض في هذه الدورة كان يحمل رسائل سياسية، فقد كانت مصر تمر بأزمة كبيرة جراء حرب ٥ يونيو ١٩٦٧، ولعل وجهة نظر وزير الثقافة وقتئذ أن مصر كانت في حاجة إلى الانفتاح الثقافي على محيطها العربي والأجنبي، وكان يستهدف من وراء ذلك تقديم رسالة إلى العالم بأن مصر لم تنكسر، وأنها قادرة على تجاوز محنتها وأنها ماضية نحو القيام بدورها واستعادة مكانتها رغم ما ألم بها من هزيمة ساحقة، لكنها قادرة دوما على أن تعيد الحياة إلى طبيعتها، وفي ذات السياق راح الإعلام المصري في التلفزيون والإذاعة والصحافة جميعهم يمارسون دورهم من خلال إتاحة مختلف البرامج الدرامية والفنية والثقافية كوسيلة لإخراج المصريين من أزمتهم النفسية، لذا جاء قرار إقامة المعرض.
استمر معرض الكتاب منذ دورته الأولى وحتى عامه هذا على الرغم من أن مصر شهدت ظروفا صعبة خلال حرب الاستنزاف مرورا بحرب ١٩٧٣، وما أعقبها من اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، التي قاطع بموجبها العرب مصر باستثناء عُمان ومعها دولتان هما السودان والصومال، ورغم ذلك لم يتوقف المعرض، إلى أن جاءت أحداث ٢٥ يناير ٢٠١١، حينما خرجت جموع المصريين مطالبين بالتغيير، في نفس توقيت إقامة المعرض الذي كان مقررا افتتاح رئيس الجمهورية له ٢٨ يناير ٢٠١١، وكانت الصين ضيف شرف هذه الدورة، وكنت وقتها رئيسا للهيئة المصرية العامة للكتاب والمسؤول عن المعرض، ونظرًا لما كانت تمر به القاهرة من أوضاع سياسية مضطربة، فقد تقرر إلغاء المعرض في نفس يوم افتتاحه، وقد شعر الناشرون الذين قدموا من مختلف دول العالم بقدر من الألم، وخصوصًا ضيف الشرف (الصين) التي كانت قد استقدمت أكثر من خمسمائة ما بين كُتاب وفنانين ومثقفين، لذا شعر رئيس الوفد الصيني بقدر من الضيق وقد أصر على أن يفتتح الجناح الصيني حتى بدون حضور جمهور، والغريب أنه أصر أيضا على أن يلقي كلمة الافتتاح بحجة أنه إجراء توثيقي، كما طلب مني أن ألقي كلمة بهذه المناسبة، ولا أدري ماذا قلت في هذه الكلمة القصيرة جدا فلقد كان الحزن والألم يخيم على الجميع.
في تلك الدورة (٢٠١١) ، كان من المقرر الإعلان عن نشر كتاب مهم (مذكرات سوزان مبارك) حرم رئيس الجمهورية الأسبق، وقد تولت إحدى دور النشر الأشهر في مصر طبع الكتاب في مطابع الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكان من المقرر إقامة حفل توقيع لهذا الكتاب، إلا أن أحداث الثورة حالت دون ذلك، واختفى الكتاب الذي عرفت أنه كُتب باللغتين العربية والإنجليزية، وعندما سألت عن مصير هذا الكتاب لم أجد ردًا لا من الناشر ولا من الجامعة الأمريكية، وأعتقد أنه آن الأوان لإتاحة هذا الكتاب لجمهور القراء، فقد انتهت الأزمة وتبين للناس أن الرئيس الأسبق مبارك وحرمه قد قدما خدمات جليلة للدولة المصرية، وكان للسيدة سوزان مبارك الفضل الكبير على الثقافة المصرية حينما كانت تتبنى المشروع الأهم في الثقافة المصرية (مكتبة الأسرة) منذ عام ١٩٩٤ وحتى عام ٢٠١١ ، والذي كان يتيح ما بين ٢٠٠إلى ٣٠٠ عنوان كل عام في مختلف صنوف الثقافة الاجتماعية والثقافية والفكرية والتراثية.
في دورة المعرض لهذا العام ٢٠٢٥ ، وبعد مرور خمس عشرة سنة تحل عُمان ضيف شرف على المعرض، وهو ما يستحق الشكر والتقدير لسلطنة عمان وكل مؤسساتها المعنية بالمعرض خاصة (وزارة الثقافة والرياضة والشباب) وعلى رأسها الوزير الشاب صاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم بن طارق الذي بذل جهدًا فائقًا لكي تتبوأ عُمان وثقافتها مكانا بارزًا في عوالم الثقافة الجديدة، ولمعالي وزير الإعلام د. عبدالله الحراصي الذي كان لمشاركته في افتتاح المعرض أكبر الأثر، وخالص التقدير للجهد الكبير الذي بذله سعادة السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي وكيل وزارة الثقافة والرياضة والشباب للثقافة، ولسفير عُمان في القاهرة سعادة عبدالله الرحبي للصورة المضيئة التي قدمها الوفد العماني لكي تكون عُمان ضيف شرف حقيقي في معرض القاهرة، وإذا كان المعرض هذا العام يتميز بإضافات جديدة ومبتكرة، فإن من بين ما يتميز به وصول عدد الناشرين المشاركين في المعرض إلى ١٣٤٢ ناشرًا من ٨٠ دولة من مختلف دول العالم، إلا أن الحضور العماني كان متميزًا من خلال عدد الناشرين، سواء من مؤسسات حكومية ممثلة في وزارة الثقافة والرياضة والشباب أو وزارات الإعلام والأوقاف والشؤون الدينية والتراث والسياحة وجامعة السلطان قابوس، فضلاً عن الجمعيات الأهلية إضافة إلى دور النشر الخاصة، وكان أهم ما عرضه الجناح العُماني في هذه الدورة نماذج أصلية مختارة من المخطوطات النادرة، كما شاركت عُمان بعدد كبير من المحاضرات والندوات والجلسات الحوارية التي قدمت تاريخ عُمان وعرَّفت بثقافتها وإسهاماتها في صناعة الحضارة الإنسانية.
لعل من المهم في تلك الندوات المشتركة التي تناولت العلاقات المصرية العمانية، بعضها في التاريخ والكثير منها في الثقافة العامة، لم تغفل الندوات العمانية الحديث عن الخطاب الثقافي وفق متغيرات العصر، وندوات أخرى تناولت عباقرة عُمان من الفراهيدي إلى أحمد بن ماجد وغيرهما، كان من أهم الندوات التي شهدت مشاركة واسعة تجربة المصريين الأُول الذين عملوا في جامعة السلطان قابوس منذ تجربتها الأولى، وقد أفرد المعرض جلسة خاصة عن التراث العماني المخطوط، سواء في عمان أو في غيرها من مختلف مكتبات العالم، وجلسة خاصة عن مشروع وزارة الثقافة والرياضة والشباب عن إدارة التراث القديم الجديد، وشملت الندوات برامج متنوعة عن البحرية العمانية وبعضها عن عُمان ومصر.
الملاحظ أيضا على مشاركة عُمان كضيف شرف أن جمهور المعرض قد استقبل مشاركة عُمان بإصداراتها وأنشطتها الثقافية والفنية بقدر كبير من الاهتمام، تجاوزت المعرض إلى الشارع المصري، وقد لفت نظر الحضور أن مشاركة عُمان هذا العام قد تميزت عن كل مشاركة الدول السابقة، حينما كانت مهمة ضيف الشرف في الدورات السابقة أقرب إلى المشاركة البروتوكولية، بينما جاءت مشاركة عُمان هذا العام بمثابة حضور شعبي تلقاه جمهور المثقفين بقدر كبير من البهجة والسعادة، وهي قضية لافتة للنظر، وكلما تحدثت مع أحد يقول : إنه بلد له تاريخ ونحن نحب العمانيين لأنهم يشتركون معنا في صناعة التاريخ، الذي لم تبدأ علاقاتنا معهم في سبعينيات القرن الماضي بل تمتد امتدادًا سحيقا من العصور القديمة عندما كانت السفن المصرية والعمانية تمخر عباب البحار والمحيطات، ليس لنقل التجارة فقط وإنما لتبادل كل أنماط الحضارة بكل مفرداتها. لذا كان السلطان قابوس - طيب الله ثراه - يخص المصريين بمحبة وعناية كبيرتين، ومن بعده جلالة السلطان هيثم بن طارق الذي كانت أول زيارة له خارج دول مجلس التعاون الخليجي هي مصر، ولهذا دامت المحبة المتبادلة.
لهذا يشترك المصريون والعمانيون معا بوشائج عميقة تستند إلى تاريخ يمتد عبر آلاف السنين وعصور سحيقة. تحية تقدير وامتنان لعُمان وقيادتها وشعبها الطيب الكريم.
د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري
0 تعليق