جدلية الثابت والمتغير

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كيف يفهم المرء حالات الصراع داخل الإطار الواحد، سواء كان هذا الإطار جغرافيًا كالأرض، أو ثقافيًا، أو وحدة سياسية متفقًا عليها؛ وهي حالة دائبة، لها أكثر من مظهر وشكل؛ مثلًا كيف نفهم حالات الاقتتال الداخلي الطويلة في تاريخنا؟ وبم نفسر نزعات الصراع وتغذيته المستمرة، وعودته بأكثر من شكل، كالصراع الهناوي الغافري مثلًا، والذي يعيده المؤرخون المعاصرون لنهاية دولة اليعاربة قبل أكثر من مائتي سنة، وهو خلاف طويل استمر تأثيره ما لا يقل عن مائتي سنة، وقامت على إثره تحالفات وتغيرات شكلت تاريخ البلاد السياسي في الحقبة اللاحقة، بل وقسمتها لتقسيمات متعارف عليها بذلك الحلف، لا بغيره، ونشأت زعامات سياسية لكل قطب منها.

بالمنظور الأوسع يمكننا أن نلمس آثارًا أقدم لذلك الصراع في صراع اليمنية والنزارية، وأقدم منها في صراع القحطانية والعدنانية، وأقدم في صراع الممالك العربية الجنوبية والشمالية في الجزيرة العربية، مع أن أحلاف القبائل كانت تتغير بتغير الزمن وتغير مصالحها بالضرورة، لكن الصراع نفسه موجود وله تاريخ مثبت، وأخطره النزاع المسلح، وصعود ثقافة الصراع وبث روح الكراهية بين أبناء الأرض والثقافة الواحدة، وتسبب ذلك الصراع، برأينا، في تحولات سياسية وثقافية حاسمة وربما نفسية، وجر الانقسام لضعف الداخل أمام التدخلات الأجنبية من فارس إلى بريطانيا، مع أن ما يعنينا هنا ليس آثار الصراع بل محاولة فهمه.

واقعيًا فإن منطق الحرب القائم على الانتصار على الخصم وتدمير قوته، يجر معه ضعف المحيط بشكل عام، فظاهريًا في الحروب يحاول كل خصم الإطاحة بخصمه على السطح، بينما في العمق تنهار أشياء كثيرة حول من ندعوه «المنتصر» في الصراع، ويتخلخل بنيان واتزان شيدته عقود من السلم والعلاقات البينية، وعادة لا تفضي الحروب إلى غير نصر اسمي، نسبي، مشكوك في اكتماله، لأنه لا يكتمل فعلًا رغم المظاهر الخارجية، فمثلًا انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية على دول المحور، لكنه نصر بطعم الخسارة، ووفق موقع الأمم المتحدة بلغت الخسائر. ٤٠ مليون مدني و٢٠ مليون عسكري نصفهم من الاتحاد السوفييتي، ونحن نعلم أن الاتحاد السوفييتي كان في حزب (المنتصرين) في تلك الحرب.

مثال آخر هو سقوط دولة البعث في العراق على يد الاحتلال الأمريكي ٢٠٠٣م، ففي الواقع أدى سقوط النظام العراقي على يد الاحتلال الأمريكي إلى فراغ داخلي وخارجي، كرسه القرار المغرض من بول بريمر بحل الجيش وكافة التنظيمات العسكرية، وهو ما سارع بحدوث الكوارث اللاحقة، من الانقسامات، ومحاولات الاستقلال، والتدخلات الخارجية المختلفة، وظهور جماعات مسلحة إرهابية تقوم بعمليات حتى خارج العراق، وتحول النظام الإيراني، عدو الأمس، ليصبح الأكثر تأثيرًا في السياسة الداخلية العراقية، حتى رأينا أول زيارة دولة يقوم بها أي رئيس عراقي جديد تكون إلى طهران، بينما خاض العراق في عهد صدام حسين حربًا مريرة ومستنزفة بكل معاني الكلمة مع إيران ١٩٨٠-١٩٨٨م بعد قيام الثورة الإيرانية، وكان ذلك بإيعاز أمريكي. والمغزى الإضافي هنا هو أن سقوط أي كيان ونظام مكتمل يخلق فراغًا وخسارات داخلية وخارجية وتمزقًا وانقسامًا ويشعل حروبًا تنهك البلاد والعباد، بل ويغري أنظمة أخرى لسد ذلك الفراغ لصالحها، وأحيانًا يكون الاستغلال بشعًا، مثلما نراه في إسرائيل التي صارت تلعب بلا رادع من توازن قوى إقليمي، خاصة بعد سقوط وضعف الأنظمة من حولها، حتى أطلقت لخيالاتها المريضة متوالية حروبا تشنها على العزل الفلسطينيين مهتلبة أول فرصة تجدها في محاولاتها لإبادة الفلسطينيين والعرب بزعم القضاء على المقاومة، وهي مقاومة طبيعية لوجودها الغريب، وهذا ما فعلته في حرب الإبادة الأخيرة لأكثر من عام ونصف وما زالت مستمرة.

في الواقع إنه مهما بلغت عيوب وسيئات أي نظام فإنه يبقى محافظًا على نوع من التوازن الداخلي والخارجي، فهو يأخذ موقعه في ميزان القوى، ونقطة التوازن هذه لا يمكن تحقيقها واستبدالها بسهولة. ففراغ السلطة يهدد بقيام كيانات منقسمة داخليًا تشهد التنافس فيما بينها ولا تنتظمها وحدة سياسية جامعة ولا وحدة قرار، وتكون الغلبة فيها للأقوى. فينشأ صراع داخلي مستعر تغذيه القوى المستفيدة من استمرار الانقسام والاضطراب، وهكذا تبقى تلك القوى الصغيرة قابلة للتلاعب الخارجي، ولا تحقق التوازن الكافي للاستقرار الداخلي ولنمو البلاد، بل بالعكس يستمر الاضطراب بسبب سعي كل منها للانتصار، لأنها تشكل عناصر غير مكتملة كوحدة سياسية قوية بل هي في حالة عدم اكتمال وتنافس، فإما أن تكتمل وتستولي فعلًا على مقاليد الحكم أو تندثر وتتفكك بمفاعلات كثيرة.

التغير يقود كل شيء بما في ذلك نحن كأفراد ونحن كجماعات، ودافع التغيير هذا يبدو أقوى منا، وهو داخلنا، شعرنا به أم لم نشعر، تلمّسنا ظاهره أو تأملنا باطنه، وهو عبارة عن حركة دائبة مستمرة لا تتوقف عن مسايرة دوران الأرض في الفلك، حتى ما عادت لنا حاجة في إثباته من شدة ثبوتيته، لكن هناك غير دوران الأرض اتزانها: قانون الجاذبية؛ وهي التي تبقي كل شيء مكانه وموقعه من الأرض نفسها، ثبات نسبي لكنه عبارة عن ثبات المدار الأرضي الذي تدور فيه الأرض؛ من هنا فإن الحركة يقودها فعلان متحدان يكملان بعضهما البعض لو انهار واحد منهما لأي سبب لانهار الثاني تلقائيا، مع أنهما يبدوان في تعارض ظاهري لكنهما في تكامل باطني، وهذه كما يبدو حال كل من على الأرض، قديم ثابت يدفعه جديد متوثب يتقادم بدوره فيحل محل القديم المندثر، وهكذا؛ لكن الشرط الرئيسي الواضح لكل ذلك هو دوام الحركة، دوام التغيّر والحيوية، فبدون ذلك ينهار الجديد مهما كان واعدًا، ويتهاوى القديم مهما بلغ رسوخه.

الصراع نفسه له جدلية تشرحها نظرية المادية الجدلية والديالكتيك لكارل ماركس، وهي تنطبق على كثير من الظواهر، بما في ذلك حركة التاريخ الاجتماعي، وبإدراك تلك المفاعلات نبدأ في تفهم انقسام الذات الجمعية على نفسها في تاريخنا، وننظر إليه لا بوصفه كراهية ذات، وتدميرًا ذاتيا للنفس الجمعية وانشقاقًا للوعي، بل بوصفه دليل حيوية وتوثبا للحركة وللتغيير، وإرادة حياة مهما جر ذلك من خسارات جسيمة لا تكون منظورة بوضوح حينها، وعادة تكمن أكبر المعيقات للحركة وللتغيير في الثقافة الجامدة المتحجرة التي ترفض إدراك ضرورة الحركة والتغيير، طالبة الجمود بكل ثمن، وترفض بالتالي استيعاب الحركة ببساطة، فتنشأ الخصومات وتكبر المعارك وتتسع الدائرة ويخسر الجميع.

باستيعابنا لجدلية الصراع يمكننا أن نفهم وحدة الإرادة، وهي النقطة التي يلتقي عندها كل ثابت ومتغير: السعي للأفضل، ونسبية تلك الأفضلية هي التي تسمح بعدم تحديدها، بينما الأفضل ببساطة هو استيعاب كل المتغيرات والحفاظ على كل المكاسب، في الوقت المناسب طبعًا، وهذا يتطلب حساسية زمنية وصدقًا مع الذات، يمكن بناؤه بكل سهولة بالصدق الحقيقي عبر احترام النقد، والقبول بالاختلاف، والاعتراف بالخطأ وتصحيحه، ومواجهة النفس، والحوار الحقيقي لا الحوار المزيّف، وتقدير الذات الحقيقي، لا التقدير المزيّف، وباختصار اتباع وإشاعة ثقافة المبادئ الأخلاقية العليا ظاهرًا وباطنًا كثقافة بقاء واستقرار وتمدن وحضارة ترتبط بالثابت على المدى الطويل وهو الأرض، لا بالهيئات المتبدلة، وبالطبع بعدم اتباع المبادئ السفلى والتركيز على الشكلانيات الجوفاء كثقافة شائعة.

إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق