وعد ترامب.. «الأرض» في العقل السياسي الإسرائيلي

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الرباط مقدس جدا بين اليمين المسيحي والرؤية الدينية اليهودية، إذ يؤمن هذا اليمين بأن «العودة» إلى أرض إسرائيل هي المقدمة الموضوعية لمجيء المسيح، لكن هذا الأمر لا يعبر عن كل اليهود، فثمة مجموعات يهودية لا تعترف أصلا بشرعية الدولة، والحقيقة أن المسألة الدينية في إسرائيل من أعقد المسائل إذ تشكل مصدرا للتوترات الاجتماعية ما يصل حد الانقسام، وعلينا ألا ننسى أن هناك إسرائيليين لا يؤمنون بالفكر الصهيوني، ويتبدى ذلك في سلوكهم الاجتماعي وقناعاتهم السياسية، والحقيقة أن الحالة الدينية مُعَقَّدة وهي المسؤولة عن تعميق الخلافات الأيديولوجية بين اليهود بمختلف تكويناتهم. فالدين كان محفزا بالغ التأثير في هجرات اليهود الأولى بسبب الحمولة الأسطورية الكبيرة والتي استطاعت الصهيونية أن تجسدها في تسويق عظيم للـ«الهولوكوست»، إذ بنى هرتزل مشروعه السياسي على توظيف حمولة الكراهية ضد اليهود في أوروبا مركّباً مظلومية بني جلدته على معنى واحد وهو أن المخرج أن تكون لليهود دولتهم الخاصة، وفي ذلك ربطٌ بين المعنى الديني للـ«العودة» والظروف الاجتماعية التي عاشها اليهود ونالوا ما نالوه من تضييق، وهذا يكشف عن توظيف الدين بشكل انتهازي لدى زعماء الصهيونية، بل لو نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى، فإننا نجد أن اضطهاد اليهود سمح بادخار الكراهية ذاتها لصالح اقتلاع شعب من أرضه طالما أن النظرية مدعومة بمعارف مؤسطرة مصدرها نبوءة العودة، وهذا ما جعل من مقولة «الأرض» مقولة ثقافية ودينية في الوقت ذاته، ثقافية كونها تستند على تجارب الإذلال الأوروبي لليهود، ما حفَّز فيهم مشاعر الظلم المرتبط بالعقيدة، وتشهد على ذلك عمليات النَّبذ الاجتماعي التي مورست عليهم والتي استندت في كثير على فتاوى كنسية، أما وهي ثقافية فإن عمليات التركيب المستمر للمظلومية ودعمها بحجج مصنوعة بعناية بالغة وصلت أقصى حدود تمثيلها فيما يسمى بـ«معاداة السامية» وهي أكبر كذبة اجتماعية في القرن العشرين وبها استطاع العقل الصهيوني أن يحوز على أساس اجتماعي مصنوع بعناية التدليس يبني عليه ترسانة من الأحداث والمواقف والأحكام تسمح له بتأسيس مقولة «العداء» كأنها مقولة منطقية وليست مجرد تركيب بلاغي لا يتعدى حدود المجاز.

إن دولة الكيان لا تملك دستورا بالمعنى القانوني الراسخ في فكرة الدولة الحديثة، وهذا أمر كاشف أيضاً عن متاعب فكرة الدولة ذاتها في إسرائيل، إذ أن أساس تكوينها يقوم على فَرضيَّة مُعَذَّبة، ففكرة الدولة بالمعنى الحداثي تشكل حرجا كبيرا لشعب مهاجر ويعيش في خطر هو من صميم وعيه الاجتماعي، ولذا فإنه وللتغلب على قاعدية الدولة وأُسس عملها صنعت إسرائيل منظومة قيم احتمالية، فاليهودية أرثوذكسية الطابع تتعايش مع قومية مُعلَمَنة، وهذا ما يسمح ببناء جُدُر شفافة بين التيارات التقليدية التي تتخذ من الأصول اليهودية مصدرا لحياتها، وكذلك تستند في رؤاها على مجمل ما تقوله الأسطورة، وهذه الأقليات المتدينة في أرض الكيان تشارك في المجال السياسي بشكل فعَّال ولا تتوانى أبدا عن معارضة عنيفة لسياسات الحكومة أيا كانت توجهاتها استنادا على ركيزة أساسية وهي أنه لا وجود لإسرائيل خارج الأسطورة الدينية التي رعتها الصهيونية، وأنه لا شرعية لهذه الدولة «المصنوعة» ولا بقاء محتمل لها إلا أن يظل الرباط مقدسا بين فكرة «الشعب اليهودي» و«أرض الميعاد»، وأيضاً بين اليسار بمختلف تنويعاته والذي يهتدي في سيره السياسي على معنى لا ديني يحارب به نظرية «الشتات» ويسعى لبناء قومية عِبرية منفصلة عن التقاليد التوراتية، تقاليد هي بضاعة النقيض الآخر المتدين في دولة لا تؤمن بمشروعية الدولة الحديثة، وكل هذا يؤسس مجمل الحراك السياسي في دولة الكيان الغاصب.

وللتأكيد على الحضور الأسطوري السياسي في دولة الكيان فقد دلَّت الأحداث التاريخية على صدق الفرضية القائلة بالرباط المقدس بين السياسي والديني، فحرب 1967م والتي انتهت بتمدد الصهيونية لتستولي على القدس الشرقية فإن الأمر عُدَّ حينها انتصارا لاهوتيا أكثر منه حدثاً يتصل بالسياسة، إذ نُظِرَ إليه كوعد تاريخي يمهد الطريق إلى تجسير الصلة بين فكرة «الشعب المختار» و«الأرض الموعودة»، وهذا ما عَزَّز بقاء الثيمات الأسطورية في العقل السياسي الإسرائيلي، إذ تواجه الدعوات إلى الانسحاب إلى حدود ما قبل (67) بموجات من معارضة متطرفة ومصدر غضبها هذه البنية الخفية في الوعي السياسي/الشعبي لدى اليهود، إذ يرتبط الأمر هنا بمعامل آخر هو معامل يعود إلى تاريخ الاضطهاد والشتات، التاريخ الذي عُمِدَ باعتباره عدواناً عرقياً على قومية مقدسة، والحقيقة التاريخية أن فكرة «العودة» ليست من بنات خيال الحركة الصهيونية التي تأسست في القرن التاسع عشر بأوروبا، بل للأمر صلة بحركة «محْبُو صَهْيُون» وهي تجمعات يهودية نشأت في روسيا (1881م) وطرحت فكرة «العودة» باعتبارها الحل الأوحد لشتات «شعب الله المختار» وكان ذلك على يد الحاخامين ألكالي وكاليشر، اللذين دفعا رجال المال اليهود أمثال مونتيفيوري وروتشيلد لجمع الأموال اللازمة لإنشاء المستعمرات الزراعية اليهودية في أرض إسرائيل، وكان هناك ليون بينسكر الطبيب المولود في بولندا (1821م) والذي دعا في مؤتمر كاتوفيتش (1884م) إلى العمل على دعم بناء المستوطنات في أرض فلسطين، واستنفار كل اليهود لتوفير الدعم اللازم لذلك، أما من الناحية السياسية فجاءت التوصية بتنسيق العلاقات السياسية مع السلطات العثمانية في فلسطين، وهذا يكشف أن الدعوات بالهجرة إلى «أرض الميعاد» لم تبدأ مع ثيودور هرتزل (توفي 1904م) بل هي لبنة مركزية في قلب العقل الإسرائيلي ما قبل نشأة فكرة العودة بمعناها السياسي، كان هذا في تاريخ دولة الكيان. لكننا اليوم نجد أن مجمل هذه الأساطير تعيش حالات إنكار من الجيل الجديد، أو على الأقل بسبب من الأزمات الاقتصادية لدولة تعيش اقتصاد الحرب، ويتكسب ساستها من تعميق فكرة «المجتمع في خطر»، لكن تظل فكرة «الأرض» هي المحرك الجوهري لسياسة دولة الكيان.

إن الحل في إعادة النظر بأُسس المواجهة مع الغاصب والانتقال بها من مجازها العاطفي إلى حقيقتها المعرفية، وبدون ذلك سيظل الصراع يتغذى على الوجدان المرهق لا العقل المستند على تفكيك المقولات المزيفة التي تشكل بنية هذا العقل الإسرائيلي، وبها يمرر ما يريده وبمساهمة غير واعية منا جميعا.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق