كريس هيدجز – (شيربوست) 2/2/2025
الإبادة الجماعية في غزة تنذر بقدوم عالم ديستوبي، حيث يغذي العنف المتأثر بالتصنيع في الشمال العالمي احتكار هذا الجزء من العالم للثروات والموارد المتناقصة في الكوكب.اضافة اعلان
***
أصبحت غزة أرضا يبابا تتكون من 50 مليون طن من الأنقاض والحطام. الجرذان والكلاب تبحث عن البقايا وسط الأنقاض والبرك النتنة لمياه الصرف الصحي الخام. وتنبعث الروائح الكريهة والتلوث الناجمين عن الجثث المتحللة من تحت جبال من الخرسانة المحطمة.
لا مياه نظيفة. ولا أكثر من القليل من الطعام. وثمة نقص حاد في الخدمات الطبية، ولا تكاد توجد أي أماكن صالحة للسكن. ويواجه الفلسطينيون خطر الموت بسبب الذخائر غير المنفجرة التي خلفها أكثر من 15 شهرًا من الغارات الجوية، والقصف المدفعي، والضربات الصاروخية، والانفجارات الناجمة عن قذائف الدبابات، ومجموعة متنوعة من المواد السامة، بما في ذلك برك مياه الصرف الصحي الخام والأسبستوس.
وينتشر التهاب الكبد الوبائي من الفئة (أ) بسبب شرب المياه الملوثة، وكذلك أمراض الجهاز التنفسي، والجرب، وسوء التغذية بسبب المجاعة، والغثيان، والقيء المنتشر بسبب تناول الطعام الفاسد. وتواجه الفئات الهشة من السكان، بمن فيهم الرضع وكبار السن، إلى جانب المرضى، احتمال الوفاة.
كما نزح حوالي 1.9 مليون شخص من منازلهم -أي ما يعادل 90 في المائة من السكان. وهم يعيشون في خيام مؤقتة، ويخيمون وسط ألواح الخرسانة أو في الهواء الطلق. وقد أجبر الكثيرون على الانتقال أكثر من اثنتي عشرة مرة.
تم تدمير أو إلحاق أذى جسيم بتسعة من كل 10 منازل. وتم هدم المباني السكنية، والمدارس، والمستشفيات، والمخابز، والمساجد، والجامعات –فجرت إسرائيل "جامعة الإسراء" في مدينة غزة في عملية هدم مسيطر عليها– والمقابر، والمتاجر والمكاتب.
يصل معدل البطالة في القطاع إلى 80 في المائة، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 85 في المائة تقريبا، وفقا لتقرير صدر عن "منظمة العمل الدولية" في تشرين الأول (أكتوبر) 2024.
ويضمن حظر إسرائيل لعمل "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى" (أونروا)- التي تقدّر أن تطهير غزة من الأنقاض التي صنعتها العمليات الإسرائيلية سيستغرق 15 عاما- أن لا يتمكن الفلسطينيون أبدًا من الوصول إلى الإمدادات الإنسانية الأساسية والغذاء والخدمات الكافية.
ويقدر "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" أن إعادة إعمار غزة ستكلف ما بين 40 و50 مليار دولار، وسوف تستمر حتى العام 2040 إذا توفرت الأموال. وستكون أكبر جهود لإعادة الإعمار بعد حرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
أشرفت إسرائيل، مزودة بمليارات الدولارات من الأسلحة من الولايات المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، على خلق هذا الجحيم. وتعتزم الحفاظ عليه.
الخيارات الوحيدة
سوف تظل غزة تحت الحصار. بعد موجة أولية من شحنات المساعدات في بداية وقف إطلاق النار، خفضت إسرائيل مرة أخرى، وبشدة، كمية المساعدات المنقولة بالشاحنات. ولن تتم استعادة البنية التحتية في غزة.
لن يتم إصلاح خدماتها الأساسية، بما في ذلك محطات معالجة المياه والكهرباء وخطوط الصرف الصحي. ولن تتم إعادة بناء طرقها وجسورها ومزارعها المدمرة. وسيضطر الفلسطينيون اليائسون إلى الاختيار بين العيش مثل سكان الكهوف، مُخيِّمين وسط قطع الخرسانة الخشنة، والموت من المرض والمجاعة والقنابل والرصاص، أو المنفى الدائم. هذه هي الخيارات الوحيدة التي تعرضها إسرائيل.
تبدو إسرائيل مقتنعة، ربما عن حق، بأن الحياة في القطاع الساحلي ستصبح في نهاية المطاف مرهقة وصعبة، خاصة وأنها تجد أعذارا مستمرة لانتهاك وقف إطلاق النار واستئناف الهجمات المسلحة على السكان الفلسطينيين، بحيث يصبح حدوث نزوح جماعي أمرا لا مفر منه. وقد رفضت، حتى مع وقف إطلاق النار، السماح للصحافة الأجنبية بدخول قطاع غزة، في حظر يهدف إلى إضعاف تغطية المعاناة والموت المروعين.
يجري الآن ترسيخ "المرحلة الثانية" من الإبادة الجماعية الإسرائيلية وتوسيع "إسرائيل الكبرى" -التي تتضمن الاستيلاء على المزيد من الأراضي السورية في مرتفعات الجولان (بالإضافة إلى الدعوات إلى التوسع إلى دمشق)، وجنوب لبنان، وغزة والضفة الغربية المحتلة. وقد عقدت منظمات إسرائيلية، بما فيها منظمة "ناتشالا" اليمينية المتطرفة، مؤتمرات للتحضير للاستعمار اليهودي لغزة بمجرد تطهير الفلسطينيين عرقيًا. وكانت المستعمرات المخصصة لليهود فقط موجودة في غزة على مدى 38 عاما حتى تم تفكيكها في العام 2005.
في الوقت نفسه، لا تفعل واشنطن وحلفاؤها في أوروبا شيئًا لوقف المذابح الجماعية التي يتم بثها على الهواء مباشرة. ولن يفعلوا شيئًا لوقف موت الفلسطينيين في غزة بسبب الجوع والمرض، ثم تهجيرهم من وطنهم في نهاية المطاف. إنهم شركاء في هذه الإبادة الجماعية. وسيظلون شركاء حتى تصل الإبادة الجماعية إلى نهايتها القاتمة.
مهملون كـ"حيوانات بشرية"
لكن الإبادة الجماعية في غزة ليست سوى البداية. إن العالم ينهار تحت هجمة أزمة المناخ، التي تؤدي إلى هجرات جماعية ودول فاشلة وحرائق غابات كارثية وأعاصير وعواصف وفيضانات وجفاف. ومع تفكك الاستقرار العالمي، ستصبح آلة العنف المصنّع المرعبة، التي تقضي على الفلسطينيين، منتشرة في كل مكان.
سيتم ارتكاب هذه الاعتداءات، كما يحدث في غزة، باسم التقدم والحضارة الغربية و"فضائلنا" المفترضة، لسحق تطلعات هؤلاء الناس، ومعظمهم من الفقراء الملونين، الذين تم تجريدهم من إنسانيتهم والتقليل من شأنهم باعتبارهم حيوانات بشرية.
يؤشر قضاء إسرائيل على غزة على موت نظامٍ عالمي يسترشد بقوانين وقواعد متفق عليها دوليًا، والتي غالبًا ما انتهكتها الولايات المتحدة في حروبها الإمبريالية في فيتنام والعراق وأفغانستان، وإنما تم تعريفها على الأقل كرؤية طوباوية. ولا تقتصر الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون على توفير الأسلحة اللازمة لإدامة الإبادة الجماعية فحسب، بل يعرقلون مطالبة معظم الدول بالالتزام بالقانون الإنساني.
والرسالة التي يرسلها هذا واضحة: "أنتم، والقواعد التي اعتقدتم أنها قد تحميكم، لا تهمون. لدينا كل شيء. وإذا حاولتم أن تأخذوه منا، فسوف نقتلكم".
الطائرات العسكرية من دون طيار، والطائرات العمودية الحربية، والجدران والحواجز، ونقاط التفتيش، وأسيجة لفائف الأسلاك الشائكة، وأبراج المراقبة، ومراكز الاحتجاز، والترحيل، والوحشية والتعذيب، والحرمان من تأشيرات الدخول، والفصل العنصري الذي يحدث من دون أن يتم توثيقه، وفقدان الحقوق الفردية، والخضوع للمراقبة الإلكترونية، هي كلها أمور مألوفة أيضًا للمهاجرين اليائسين على طول الحدود المكسيكية، أو الذين يحاولون دخول أوروبا، كما هي مألوفة للفلسطينيين.
وكما يلاحظ رونين بيرغمان Ronen Bergman في كتابه "انهض واقتل أولاً" Rise and Kill First، فإن إسرائيل "اغتالت أشخاصًا أكثر من أي دولة أخرى في العالم الغربي"، وهي تستخدم الهولوكوست النازي لإضفاء القداسة على وضع الضحية الموروث وتبرير دولتها الاستعمارية الاستيطانية، والفصل العنصري، وحملات القتل الجماعي، والنسخة الصهيونية من "المجال الحيوي".(1)
"تعطش للانتقام"
رأى بريمو ليفي Primo Levi، الذي نجا من أوشفيتز، في "الشواه" (المحرقة) "مصدرًا لا ينضب للشرّ" الذي "يرتكب في شكل كراهية في الناجين، وينشأ بألف طريقة وضد إرادة الجميع، كتعطش للانتقام، كانهيار أخلاقي، كإنكار، كتعب، كاستسلام".
ليست الإبادة الجماعية والاستئصال الجماعي حكرًا على ألمانيا الفاشية. بدا أدولف هتلر، كما كتب إيمي سيزير Aimé Césaire، في "خطاب عن الاستعمار" Discourse on Colonialism، قاسيًا بشكل استثنائي فقط لأنه أشرف على "إذلال الرجل الأبيض". لكن النازيين، كما يكتب، طبقوا ببساطة "إجراءات استعمارية كانت حتى ذلك الحين مخصصة حصريًا لعرب الجزائر، وكوليي الهند، وسود إفريقيا".
المذبحة الألمانية لشعوب هيريرو وناماكوا، والإبادة الجماعية للأرمن، ومجاعة البنغال في العام 1943 –حيث قلل رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ونستون تشرشل، من شأن مقتل 3 ملايين هندوسي في المجاعة باعتبارهم "شعب وحشي ذو ديانة وحشية"- إلى جانب إلقاء القنابل النووية على الأهداف المدنية في هيروشيما وناغازاكي، توضح شيئًا أساسيًا بشأن "الحضارة الغربية".
كما فهمت هانا أرندت Hannah Arendt، فإن معاداة السامية وحدها لم تؤد إلى المحرقة. كانت المحرقة في حاجة إلى إمكانات الإبادة الجماعية الفطرية للدولة البيروقراطية الحديثة.
وقال الشاعر لانغستون هيوز Langston Hughes: "في أميركا، لا يجب إخبار الزنوج بماهية الفاشية الماثلة. إننا نعرف. لطالما كانت نظرياتها عن تفوق الشمال الأوروبي والقمع الاقتصادي حقائق بالنسبة لنا".
يهيمن الشماليون على العالم -ليس بسبب تفوقهم الأخلاقي، بل لأنهم القتلة الأكثر كفاءة على هذا الكوكب. ثمة الملايين من الضحايا الذين سقطوا بسبب المشاريع الإمبريالية العنصرية في بلدان مثل المكسيك، والصين، والهند، والكونغو، وكينيا، وفيتنام، والذين لا يصغون إلى المزاعم الساذجة التي يرددها اليهود عن تفردهم بموقف الضحية.
وكذلك السود، والسُّمر، والأميركيون الأصليون. لقد عانى كل هؤلاء أيضًا من المحارق، لكن هذه محارق يتم التقليل من شأنها أو تظل غير معترف بها من قبل مرتكبيها الغربيين.
في كتابه "العالم بعد غزة" The World After Gaza، كتب بانكاج ميشرا Pankaj Mishra: "هذه الأحداث التي وقعت في الذاكرة الحية قوضت الافتراض الأساسي لكل من التقاليد الدينية والتنوير العلماني: أن البشر لديهم طبيعة "أخلاقية" بشكل أساسي".
"الشك بأنه ليس لديهم مثل هذه الطبيعة أصبح غامرًا الآن. لقد شهد عدد أكبر من الناس عن كثب الموت والتشويه، في ظل أنظمة القسوة، والتخويف والرقابة؛ وهم يدركون -مصدومين- أن كل شيء ممكن، متذكرين أن الفظائع الماضية ليس ضمانا لعدم تكرارها في الوقت الحاضر، وأن أسس القانون الدولي والأخلاق ليست آمنة ولا مضمونة على الإطلاق".
إن المذابح الجماعية هي جزء لا يتجزأ من الإمبريالية الغربية، تمامًا مثل المحرقة. إنها تتغذى على نفس مرض تفوق البيض والاقتناع بأن عالمًا أفضل سيكون مبنيًا على إخضاع -والقضاء على- الأعراق "الدنيا".
الكفاح من أجل الاحتفاظ بما سُرق
تجسد إسرائيل الدولة العرقية القومية التي يحلم اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وأوروبا بإنشائها لأنفسهم -دولة ترفض التعددية السياسية والثقافية، فضلاً عن الأعراف والمعايير القانونية والدبلوماسية والأخلاقية.
وتحظى إسرائيل بإعجاب هؤلاء الفاشيين البدائيين، بمن فيهم القوميون المسيحيون، لأنها أدارت ظهرها للقانون الإنساني واستخدمت القوة المميتة العشوائية "لتطهير" مجتمعها من أولئك الذين حُكم عليهم بأنهم ملوثات بشرية. وكما رأى جيمس بالدوين James Baldwin، فإن إسرائيل وحلفاءها الغربيين يتجهون نحو "الاحتمال الرهيب" المتمثل في أن كون:
"الدول المهيمنة تكافح للتمسك بما سرقته من أسراها، وغير قادرة على النظر في مرآتها، سيعجِّل بالفوضى في جميع أنحاء العالم، والتي، إذا لم تجلب الحياة على هذا الكوكب إلى نهاية، فإنها ستؤدي إلى اندلاع حرب عرقية لم يشهد لها العالم من قبل مثيلًا".
إن ما ينقصنا ليس المعرفة –حيث غدر الغرب وإسرائيل هو جزء من السجل التاريخي- وإنما الشجاعة لتسمية ظلاميتنا باسمها والتوبة عنها. إن هذا العمى المتعمد وفقدان الذاكرة التاريخي، وهذا الرفض للمساءلة أمام سيادة القانون؛ هذا الاعتقاد بأن شمال الكرة الأرضية له الحق في استخدام العنف المصنع لفرض إرادته، إنما يمثل بداية، وليس نهاية، حملات المذابح الجماعية ضد جحافل العالم المتزايدة من الفقراء والضعفاء.
*كريس هيدجز Chris Hedges: صحفي حائز على جائزة بوليتزر. كان مراسلاً أجنبيًا لمدة 15 عامًا لصحيفة "نيويورك تايمز"، حيث شغل منصب رئيس مكتب الشرق الأوسط ورئيس مكتب البلقان للصحيفة. عمل سابقا مراسلًا في الخارج لكل من "ذا دالاس مورنينغ نيوز"؛ "ذا كرستيان سينس مونيتور"، و"الراديو الوطني". وهو مضيف برنامج "تقرير كريس هيدجز" The Chris Hedges Report.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Western Way of Genocide
الإبادة الجماعية في غزة تنذر بقدوم عالم ديستوبي، حيث يغذي العنف المتأثر بالتصنيع في الشمال العالمي احتكار هذا الجزء من العالم للثروات والموارد المتناقصة في الكوكب.اضافة اعلان
***
أصبحت غزة أرضا يبابا تتكون من 50 مليون طن من الأنقاض والحطام. الجرذان والكلاب تبحث عن البقايا وسط الأنقاض والبرك النتنة لمياه الصرف الصحي الخام. وتنبعث الروائح الكريهة والتلوث الناجمين عن الجثث المتحللة من تحت جبال من الخرسانة المحطمة.
لا مياه نظيفة. ولا أكثر من القليل من الطعام. وثمة نقص حاد في الخدمات الطبية، ولا تكاد توجد أي أماكن صالحة للسكن. ويواجه الفلسطينيون خطر الموت بسبب الذخائر غير المنفجرة التي خلفها أكثر من 15 شهرًا من الغارات الجوية، والقصف المدفعي، والضربات الصاروخية، والانفجارات الناجمة عن قذائف الدبابات، ومجموعة متنوعة من المواد السامة، بما في ذلك برك مياه الصرف الصحي الخام والأسبستوس.
وينتشر التهاب الكبد الوبائي من الفئة (أ) بسبب شرب المياه الملوثة، وكذلك أمراض الجهاز التنفسي، والجرب، وسوء التغذية بسبب المجاعة، والغثيان، والقيء المنتشر بسبب تناول الطعام الفاسد. وتواجه الفئات الهشة من السكان، بمن فيهم الرضع وكبار السن، إلى جانب المرضى، احتمال الوفاة.
كما نزح حوالي 1.9 مليون شخص من منازلهم -أي ما يعادل 90 في المائة من السكان. وهم يعيشون في خيام مؤقتة، ويخيمون وسط ألواح الخرسانة أو في الهواء الطلق. وقد أجبر الكثيرون على الانتقال أكثر من اثنتي عشرة مرة.
تم تدمير أو إلحاق أذى جسيم بتسعة من كل 10 منازل. وتم هدم المباني السكنية، والمدارس، والمستشفيات، والمخابز، والمساجد، والجامعات –فجرت إسرائيل "جامعة الإسراء" في مدينة غزة في عملية هدم مسيطر عليها– والمقابر، والمتاجر والمكاتب.
يصل معدل البطالة في القطاع إلى 80 في المائة، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 85 في المائة تقريبا، وفقا لتقرير صدر عن "منظمة العمل الدولية" في تشرين الأول (أكتوبر) 2024.
ويضمن حظر إسرائيل لعمل "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى" (أونروا)- التي تقدّر أن تطهير غزة من الأنقاض التي صنعتها العمليات الإسرائيلية سيستغرق 15 عاما- أن لا يتمكن الفلسطينيون أبدًا من الوصول إلى الإمدادات الإنسانية الأساسية والغذاء والخدمات الكافية.
ويقدر "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" أن إعادة إعمار غزة ستكلف ما بين 40 و50 مليار دولار، وسوف تستمر حتى العام 2040 إذا توفرت الأموال. وستكون أكبر جهود لإعادة الإعمار بعد حرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
أشرفت إسرائيل، مزودة بمليارات الدولارات من الأسلحة من الولايات المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، على خلق هذا الجحيم. وتعتزم الحفاظ عليه.
الخيارات الوحيدة
سوف تظل غزة تحت الحصار. بعد موجة أولية من شحنات المساعدات في بداية وقف إطلاق النار، خفضت إسرائيل مرة أخرى، وبشدة، كمية المساعدات المنقولة بالشاحنات. ولن تتم استعادة البنية التحتية في غزة.
لن يتم إصلاح خدماتها الأساسية، بما في ذلك محطات معالجة المياه والكهرباء وخطوط الصرف الصحي. ولن تتم إعادة بناء طرقها وجسورها ومزارعها المدمرة. وسيضطر الفلسطينيون اليائسون إلى الاختيار بين العيش مثل سكان الكهوف، مُخيِّمين وسط قطع الخرسانة الخشنة، والموت من المرض والمجاعة والقنابل والرصاص، أو المنفى الدائم. هذه هي الخيارات الوحيدة التي تعرضها إسرائيل.
تبدو إسرائيل مقتنعة، ربما عن حق، بأن الحياة في القطاع الساحلي ستصبح في نهاية المطاف مرهقة وصعبة، خاصة وأنها تجد أعذارا مستمرة لانتهاك وقف إطلاق النار واستئناف الهجمات المسلحة على السكان الفلسطينيين، بحيث يصبح حدوث نزوح جماعي أمرا لا مفر منه. وقد رفضت، حتى مع وقف إطلاق النار، السماح للصحافة الأجنبية بدخول قطاع غزة، في حظر يهدف إلى إضعاف تغطية المعاناة والموت المروعين.
يجري الآن ترسيخ "المرحلة الثانية" من الإبادة الجماعية الإسرائيلية وتوسيع "إسرائيل الكبرى" -التي تتضمن الاستيلاء على المزيد من الأراضي السورية في مرتفعات الجولان (بالإضافة إلى الدعوات إلى التوسع إلى دمشق)، وجنوب لبنان، وغزة والضفة الغربية المحتلة. وقد عقدت منظمات إسرائيلية، بما فيها منظمة "ناتشالا" اليمينية المتطرفة، مؤتمرات للتحضير للاستعمار اليهودي لغزة بمجرد تطهير الفلسطينيين عرقيًا. وكانت المستعمرات المخصصة لليهود فقط موجودة في غزة على مدى 38 عاما حتى تم تفكيكها في العام 2005.
في الوقت نفسه، لا تفعل واشنطن وحلفاؤها في أوروبا شيئًا لوقف المذابح الجماعية التي يتم بثها على الهواء مباشرة. ولن يفعلوا شيئًا لوقف موت الفلسطينيين في غزة بسبب الجوع والمرض، ثم تهجيرهم من وطنهم في نهاية المطاف. إنهم شركاء في هذه الإبادة الجماعية. وسيظلون شركاء حتى تصل الإبادة الجماعية إلى نهايتها القاتمة.
مهملون كـ"حيوانات بشرية"
لكن الإبادة الجماعية في غزة ليست سوى البداية. إن العالم ينهار تحت هجمة أزمة المناخ، التي تؤدي إلى هجرات جماعية ودول فاشلة وحرائق غابات كارثية وأعاصير وعواصف وفيضانات وجفاف. ومع تفكك الاستقرار العالمي، ستصبح آلة العنف المصنّع المرعبة، التي تقضي على الفلسطينيين، منتشرة في كل مكان.
سيتم ارتكاب هذه الاعتداءات، كما يحدث في غزة، باسم التقدم والحضارة الغربية و"فضائلنا" المفترضة، لسحق تطلعات هؤلاء الناس، ومعظمهم من الفقراء الملونين، الذين تم تجريدهم من إنسانيتهم والتقليل من شأنهم باعتبارهم حيوانات بشرية.
يؤشر قضاء إسرائيل على غزة على موت نظامٍ عالمي يسترشد بقوانين وقواعد متفق عليها دوليًا، والتي غالبًا ما انتهكتها الولايات المتحدة في حروبها الإمبريالية في فيتنام والعراق وأفغانستان، وإنما تم تعريفها على الأقل كرؤية طوباوية. ولا تقتصر الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون على توفير الأسلحة اللازمة لإدامة الإبادة الجماعية فحسب، بل يعرقلون مطالبة معظم الدول بالالتزام بالقانون الإنساني.
والرسالة التي يرسلها هذا واضحة: "أنتم، والقواعد التي اعتقدتم أنها قد تحميكم، لا تهمون. لدينا كل شيء. وإذا حاولتم أن تأخذوه منا، فسوف نقتلكم".
الطائرات العسكرية من دون طيار، والطائرات العمودية الحربية، والجدران والحواجز، ونقاط التفتيش، وأسيجة لفائف الأسلاك الشائكة، وأبراج المراقبة، ومراكز الاحتجاز، والترحيل، والوحشية والتعذيب، والحرمان من تأشيرات الدخول، والفصل العنصري الذي يحدث من دون أن يتم توثيقه، وفقدان الحقوق الفردية، والخضوع للمراقبة الإلكترونية، هي كلها أمور مألوفة أيضًا للمهاجرين اليائسين على طول الحدود المكسيكية، أو الذين يحاولون دخول أوروبا، كما هي مألوفة للفلسطينيين.
وكما يلاحظ رونين بيرغمان Ronen Bergman في كتابه "انهض واقتل أولاً" Rise and Kill First، فإن إسرائيل "اغتالت أشخاصًا أكثر من أي دولة أخرى في العالم الغربي"، وهي تستخدم الهولوكوست النازي لإضفاء القداسة على وضع الضحية الموروث وتبرير دولتها الاستعمارية الاستيطانية، والفصل العنصري، وحملات القتل الجماعي، والنسخة الصهيونية من "المجال الحيوي".(1)
"تعطش للانتقام"
رأى بريمو ليفي Primo Levi، الذي نجا من أوشفيتز، في "الشواه" (المحرقة) "مصدرًا لا ينضب للشرّ" الذي "يرتكب في شكل كراهية في الناجين، وينشأ بألف طريقة وضد إرادة الجميع، كتعطش للانتقام، كانهيار أخلاقي، كإنكار، كتعب، كاستسلام".
ليست الإبادة الجماعية والاستئصال الجماعي حكرًا على ألمانيا الفاشية. بدا أدولف هتلر، كما كتب إيمي سيزير Aimé Césaire، في "خطاب عن الاستعمار" Discourse on Colonialism، قاسيًا بشكل استثنائي فقط لأنه أشرف على "إذلال الرجل الأبيض". لكن النازيين، كما يكتب، طبقوا ببساطة "إجراءات استعمارية كانت حتى ذلك الحين مخصصة حصريًا لعرب الجزائر، وكوليي الهند، وسود إفريقيا".
المذبحة الألمانية لشعوب هيريرو وناماكوا، والإبادة الجماعية للأرمن، ومجاعة البنغال في العام 1943 –حيث قلل رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ونستون تشرشل، من شأن مقتل 3 ملايين هندوسي في المجاعة باعتبارهم "شعب وحشي ذو ديانة وحشية"- إلى جانب إلقاء القنابل النووية على الأهداف المدنية في هيروشيما وناغازاكي، توضح شيئًا أساسيًا بشأن "الحضارة الغربية".
كما فهمت هانا أرندت Hannah Arendt، فإن معاداة السامية وحدها لم تؤد إلى المحرقة. كانت المحرقة في حاجة إلى إمكانات الإبادة الجماعية الفطرية للدولة البيروقراطية الحديثة.
وقال الشاعر لانغستون هيوز Langston Hughes: "في أميركا، لا يجب إخبار الزنوج بماهية الفاشية الماثلة. إننا نعرف. لطالما كانت نظرياتها عن تفوق الشمال الأوروبي والقمع الاقتصادي حقائق بالنسبة لنا".
يهيمن الشماليون على العالم -ليس بسبب تفوقهم الأخلاقي، بل لأنهم القتلة الأكثر كفاءة على هذا الكوكب. ثمة الملايين من الضحايا الذين سقطوا بسبب المشاريع الإمبريالية العنصرية في بلدان مثل المكسيك، والصين، والهند، والكونغو، وكينيا، وفيتنام، والذين لا يصغون إلى المزاعم الساذجة التي يرددها اليهود عن تفردهم بموقف الضحية.
وكذلك السود، والسُّمر، والأميركيون الأصليون. لقد عانى كل هؤلاء أيضًا من المحارق، لكن هذه محارق يتم التقليل من شأنها أو تظل غير معترف بها من قبل مرتكبيها الغربيين.
في كتابه "العالم بعد غزة" The World After Gaza، كتب بانكاج ميشرا Pankaj Mishra: "هذه الأحداث التي وقعت في الذاكرة الحية قوضت الافتراض الأساسي لكل من التقاليد الدينية والتنوير العلماني: أن البشر لديهم طبيعة "أخلاقية" بشكل أساسي".
"الشك بأنه ليس لديهم مثل هذه الطبيعة أصبح غامرًا الآن. لقد شهد عدد أكبر من الناس عن كثب الموت والتشويه، في ظل أنظمة القسوة، والتخويف والرقابة؛ وهم يدركون -مصدومين- أن كل شيء ممكن، متذكرين أن الفظائع الماضية ليس ضمانا لعدم تكرارها في الوقت الحاضر، وأن أسس القانون الدولي والأخلاق ليست آمنة ولا مضمونة على الإطلاق".
إن المذابح الجماعية هي جزء لا يتجزأ من الإمبريالية الغربية، تمامًا مثل المحرقة. إنها تتغذى على نفس مرض تفوق البيض والاقتناع بأن عالمًا أفضل سيكون مبنيًا على إخضاع -والقضاء على- الأعراق "الدنيا".
الكفاح من أجل الاحتفاظ بما سُرق
تجسد إسرائيل الدولة العرقية القومية التي يحلم اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وأوروبا بإنشائها لأنفسهم -دولة ترفض التعددية السياسية والثقافية، فضلاً عن الأعراف والمعايير القانونية والدبلوماسية والأخلاقية.
وتحظى إسرائيل بإعجاب هؤلاء الفاشيين البدائيين، بمن فيهم القوميون المسيحيون، لأنها أدارت ظهرها للقانون الإنساني واستخدمت القوة المميتة العشوائية "لتطهير" مجتمعها من أولئك الذين حُكم عليهم بأنهم ملوثات بشرية. وكما رأى جيمس بالدوين James Baldwin، فإن إسرائيل وحلفاءها الغربيين يتجهون نحو "الاحتمال الرهيب" المتمثل في أن كون:
"الدول المهيمنة تكافح للتمسك بما سرقته من أسراها، وغير قادرة على النظر في مرآتها، سيعجِّل بالفوضى في جميع أنحاء العالم، والتي، إذا لم تجلب الحياة على هذا الكوكب إلى نهاية، فإنها ستؤدي إلى اندلاع حرب عرقية لم يشهد لها العالم من قبل مثيلًا".
إن ما ينقصنا ليس المعرفة –حيث غدر الغرب وإسرائيل هو جزء من السجل التاريخي- وإنما الشجاعة لتسمية ظلاميتنا باسمها والتوبة عنها. إن هذا العمى المتعمد وفقدان الذاكرة التاريخي، وهذا الرفض للمساءلة أمام سيادة القانون؛ هذا الاعتقاد بأن شمال الكرة الأرضية له الحق في استخدام العنف المصنع لفرض إرادته، إنما يمثل بداية، وليس نهاية، حملات المذابح الجماعية ضد جحافل العالم المتزايدة من الفقراء والضعفاء.
*كريس هيدجز Chris Hedges: صحفي حائز على جائزة بوليتزر. كان مراسلاً أجنبيًا لمدة 15 عامًا لصحيفة "نيويورك تايمز"، حيث شغل منصب رئيس مكتب الشرق الأوسط ورئيس مكتب البلقان للصحيفة. عمل سابقا مراسلًا في الخارج لكل من "ذا دالاس مورنينغ نيوز"؛ "ذا كرستيان سينس مونيتور"، و"الراديو الوطني". وهو مضيف برنامج "تقرير كريس هيدجز" The Chris Hedges Report.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Western Way of Genocide
هامش المترجم:
(1) يشير "المجال الحيوي" ليبنسراوم (Lebensraum) إلى المفهوم التوسعي الذي تبنته ألمانيا النازية لتبرير احتلال الأراضي وتهجير الشعوب، خصوصًا في أوروبا الشرقية، بدعوى الحاجة إلى "مجال حيوي" للأمة الألمانية. وتعني "النسخة الصهيونية من "ليبنسراوم" اعتناق المشروع الصهيوني الاستيطاني نفس المنطق التوسعي، حيث يُبرَّر احتلال الأراضي الفلسطينية، وتهجير السكان الأصليين، وتوسيع المستوطنات الصهيونية، على أنها ضرورات حيوية لاستمرارية الدولة الإسرائيلية، تمامًا كما بررت النازية توسعها الجغرافي والاستعماري.
0 تعليق