لا شك أن كلمة المواطنة مستمدة من الوطن، فالمواطنة إذًا تتحدد على مرتكزات ومحددات لا تقبل الانفصال من حيث التعريف، وهما «جنس الإنسان» والثاني الأرض ينتمي إليها ويعيش فيها، ويتم تسمية هذا الإنسان مواطنًا، ويشترك مع غيره في هذا الوطن، ويتفاعل معهم في كل شؤون حياتهم وفق مقدرته وخبرته وإمكانياته الفكرية والاجتماعية، إلى جانب أنهم ـ المواطنين، يدافعون عن هذا الوطن الذي يجمعهم في رابطة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات، كما أن صورة المواطنة في المدينة والتاريخ والتراث العربي الإسلامي، نجدها حاضرة في هذا المفهوم بصورة واضحة وجلية، فالمواطنة لها أصل عربي مشتق من موطن الإنسان وإقامته، فالإنسان الفرد المرتبط بالمكان الذي يقيم فيه، وانتماؤه إليه هو المواطن في إطار التوطن بالأرض والإقامة فيها، وتبعًا لظروف العيش الكريم والاستقرار المناسب، كما أن مفهوم كلمة مواطن أصبحت مرتبطة بأسس متفق عليها بين الدول في المجالات القانونية والسياسية والاجتماعية، مع التغيرات في مفاهيم المواطنة وتبعاتها الأخرى.
كما أن الالتصاق بالأرض، والتعاون والتعاضد أسهم في تقوية الرابطة الوطنية بالمكان.. فأوجدت شعورًا متماسكًا عند المواطن مع غيره من المواطنين، هذا في الوقت الذي أصبح الدفاع عن الوطن من الواجبات مثلها مثل واجبات الدين والقيم، فقد جاء في الحديث الشريف: (من مات دون أرضه فهو شهيد).
والمواطنة أيضًا هي الانتماء للأرض التي يقيم فيها الفرد، مع الآخرين في وطن يجمعهم ويتمتعون بالحقوق والكرامة الإنسانية، والالتزام بتأدية الواجبات عليهم بحيث يصيرون، كما يرى د. محمد صبري خليل «مواطنين أي يشتركون في الانتساب إلى وطن، ويساوي بينهم هذا الانتساب مساواة تجعلهم قادرين على التخلص ولو جزئيًا من خصوصياتهم الفردية وعلى التواصل موضوعيًا مع بعضهم ومع الغير على أساس صفة المواطنة فقط فمجال المواطنة يختلف عن مجال الفردية، بما فيها الدين لكون هذا الأخير ينظم العلاقة، بين الله والعباد حتى في الروابط التي تجمع بين العباد، فمجال الفردية أو الخصوصية غير مجال المواطنة؛ لأنه مجال الشأن العام الذي يهم الجميع على قدم المساواة ولا محل فيه للخصوصية الفردية، وتعني المساواة هنا نوعًا من التماثل بين المواطنين، بخلاف الخصوصية التي تميز بعضهم عن بعض كالدين واللغة والعرق والتي تدخل في إطار الحرية الفردية».
فالذي يمكن أن تنطبق كلمة المواطنة بكل ما يترتب عليها من مسؤوليات والتزامات، هو أن يعيش الفرد المواطن بحقوق متساوية مع زميله المواطن في هذا المكان الجغرافي المحدد، دون النظر إلى جنسه أو لونه أو انتمائه الفكري أو العرقي، وله كافة الحقوق وعليه من الواجبات ما على أقرانه، فالمواطنون متساوون وينتمون للوطن الواحد الذي يجمعهم في هذا الحيز الجغرافي.
ويرى البعض أن المواطنة هي الصفة المحددة من الفرد، الذي ينتمي إلى جماعة سياسية معينة، أو ينتمي بجنسيته إلى دولة قائمة مع آخرين، وعليه واجبات وله حقوق مقابلة، وبذلك تتحدد المواطنة على هذا الأساس بصورة عادلة بين الجميع، ومن ثم فإن العلاقة تتعلق باعتراف من قبل الدولة، بحقوق المواطنة وما يترتب عليها من قضايا أخرى من جهة المواطن وجهة الدولة، فهذا الوصف ينبغي أن يصدق على كل من تشملهم الدولة بنظامها، ويلتزمون بقوانينها، والمعيار هنا لا يتعلق فقط بالوصف الذي سارت عليه الجماعة السياسية وسلطتها، وتميزت عن غيرها، من حيث النظم التي وضعتها الدولة للمواطنة، ولكنه يتعلق بالأسس التي وضعتها الدولة وجعلتها ملزمة في تشريعاتها، وهي صور ثابتة ومتحققة في الواقع المعيش لما تم تحديده للمواطنة، إلى جانب هذه المفاهيم والتعريفات المشار إليها آنفًا، هناك أبعاد أساسية لمفهوم المواطنة، ويتمثل البعد الأول في التحديد اللغوي للمفهوم، ويتمثل الثاني في التحديد الذي يفرضه السياق الاجتماعي والثقافي والحضاري، بينما يتصل التحديد العلمي للمفهوم بالتراث العلمي الذي ينتمي إليه، ومع تطور الدولة التاريخي ترسخت الكثير من جوانب الحقوق والواجبات للمواطن، لم تكن متجذرة في مراحل تاريخية سابقة، وهذه الحقوق والواجبات استندت، كما قال محمد محفوظ إلى الحالة «التي بلغها تطور المجتمع بالأساس. فقد بدأت المواطنة باعتبارها نوعًا من الانتماء للمكان حيث عاش الإنسان في مكان معين لا يستطيع فراقه وينتمي إليه.
ثم أضيف بُعد الجماعة إلى بُعد المكان بعد ذلك وأصبح الانتماء موجها إلى الجماعة والمكان معًا، وحينما تطورت الجماعة وكبُرت فقدت تجانسها واقتصرت المواطنة على البعض دون البعض الآخر، ثم تطور الأمر إلى مرحلة جديدة حيث لعب الدين والكنيسة دورهما كمرجعية للمواطنة، وحينما تفجر الصراع بين الدولة والكنيسة وتراجعت الأخيرة برزت المواطنة مرتبطة بالدولة القومية، معبرة عن الأمة التي شكلت مرجعية للدولة والمواطنة معًا». ولا شك أن ثمة توازنًا أو تقابلًا بين الحقوق والواجبات، عند تحقق المواطنة الكاملة للمواطنين، وتنشأ لهذا الجانب التقابل بين الحق والواجب.
ولا شك أن المواطنة تعطي المواطن حقوق المواطنة كاملة: الحقوق المدنية، والحقوق السياسية، والحقوق الاجتماعية، ومنها الحقوق القانونية التي تعتبر ذروة وأهمية القوانين للمواطن في الاستمساك بحقوقه المنصوصة عليها... لذلك نرى في مقابلها وضع مجموعة من الواجبات القانونية المقابلة على الفرد المواطن، مع الالتزامات المعنوية، ومسؤوليات المواطنة التي تتبعها مباشرة، مثلما يفرض عليه الولاء التام للوطن من التزامات.
ولذلك يحمي القانون ويضمن للجميع الحقوق المدنية والسياسية بما فيها حق المشاركة في صنع القرارات حسب من تم وضعه في النظم الدستورية، كما يضمن تحقيق الإنصاف الاجتماعي والاقتصادي وغيرهما من اللوائح والنظم التي تنظمها القوانين التي تصدر من الدولة، إلى جانب حماية كرامة وحرية واستقلال كل مواطن في وطنه. لكن تجربة صحيفة المدينة أو دستور المدينة، كما يسميها البعض ـ والتي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم لسكان المدينة، يثرب- تعطي أنموذجًا فريدًا ومتميزًا لمعنى المواطنة ومفهومها العميق، لم نجده في مجتمعات أو شعوب أخرى سبقت العصر الأول الإسلامي أو في العصور اللاحقة عليه، فقد صاغ الرسول -عليه الصلاة والسلام- هذا الدستور ولغ فيه التعدد أو التنوع القائم في المدينة بحسب د. محمد عثمان «وإنما صاغ دستورًا وقانونًا يوضح نظام الحقوق والواجبات، ويحدد وظائف كل شريحة وفئة، ويؤكد على نظام التضامن والعيش المشترك. إذ جاء في صحيفة المدينة: «وإنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وإنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم في شيء (فيه من شيء) فإن مرده إلى الله وإلى الرسول (محمد) وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم، إلا من ظلم، أو إثم، فإنه لا يوتغ ـ يهلك ـ إلا نفسه، وأهل بيته».
ولا شك أن ارتباط الإنسان بالوطن واستقراره به يعني أنه انتمى إليه وأصبح مواطنًا على أرضه ويعيش من خيراته، ويمارس كل أنشطته المختلفة، فهذا الوطن نعمة من الله عز وجل على الفرد والأمة، ولذلك محبته والولاء له واجبة مثل كل الواجبات التي تقع ضمن النظم والقوانين، وعليه فالانتماء للوطن إنما هو معزز للانتماء الإسلامي الذي هو الدائرة الكبرى لكل الأمة المسلمة، ولذلك إحسان الانتماء للوطن تنشئ الأفراد على المحبة والألفة والتماسك بينهم في كل ما يهم الوطن وقضاياه وما يعتريه من أخطار، ومن هنا فالانتماء للوطن يتوافق ويتقارب مع الانتماء للإسلام كدين الأمة المسلمة، وهو القوة الدافعة لهم كقوة روحية ملهمة للمسلم في الأزمات.
ولذلك فإن المواطنة هي الانتماء إلى الوطن والمشاركة فيه كمجموعة بشرية قائمة، بإرادة مشتركة مع الآخرين في العيش سويًا، وفي حياة آمنة مستقرة، ومن هنا فإن التأكيد على قيم المواطنة، من شأنه أن يخلق بصورة متماسكة بما يعزز قوة وهوية المواطنة والشعور بالانتماء لهذا الوطن الذي يجمعهم ويوحدهم جميعًا في إطار الآمال والمشتركات الوطنية.
كما أن المواطنة أيضًا، ليست مجرد انتماء وحقوق وواجبات، بل إن المواطنة تعبير يجسد كل المعاني الرائعة في المجتمع والدولة من المشاعر المشتركة بين أفراد الأمة وخصائصها المتعددة، من قيم وأفكار وغيرها من المقومات الجميلة في الأوطان، فالمواطنة، كما يرى حسين جمعة «انتماء عقلي موضوعي وأصيل لقيم الحق والخير؛ وتربية ذاتية واجتماعية وثقافية، وكلما ارتفع المواطن في درجة المسؤولية وجب عليه أن يكون قدوة وعن قناعة، وعليه أن يعيش حسّ المواطنة بحالة وجدانية عالية لكي يكون قادرًا على تحمل المسؤولية، وبذل العطاء والتضحية بأريحية؛ لأن المواطن في الأصل متشبه بالقيم السامية متمثل لها، ومشحون بحب الوطن وقضاياه».
قد يقول البعض أن مفهوم المواطنة، يعتبر من المفاهيم المتحركة في إطار الصيرورة الزمنية التاريخية المتغيرة، يضيق أحيانًا ويتسع أحيانًا أخرى، لكنه في المجمل مفهوم اتفقت عليه الإنسانية جمعاء في عصرنا الراهن، بمضامين واضحة مع اختلاف الثقافة السائدة في كل دولة، لكنها تتقارب في أهدافه ومحدداته العامة.
0 تعليق