هذه الصفقات التي تشهد أحيانا تكتلات ضخمة بين شركات الأدوية العملاقة أو مستشفيات مرموقة أو حتى شركات تأمين صحي دولية، تأتي نتيجة سعي المؤسسات الصحية إلى تحسين كفاءتها وترشيد نفقاتها وتعزيز قدراتها التنافسية في سوق تتسم بتحديات مالية وابتكارية متنامية. فالاندماج يشير عادة إلى اتحاد شركتين أو أكثر في كيان جديد كليا، بينما يقصد بالاستحواذ شراء شركة لحصة مسيطرة في شركة أخرى لتضمها تحت مظلتها الإدارية والقانونية. وعلى مستوى الرعاية الصحية، يمكن لهذه الخطوات أن تتيح فرصا هائلة لتوسيع نطاق الخدمات وتخفيض التكاليف وتحفيز عمليات البحث والتطوير، وقد تثير أيضا مخاوف مرتبطة بالاحتكار وتقليل المنافسة وارتفاع الأسعار. لذلك يجد القطاع الصحي نفسه في حالة دائمة من الموازنة الدقيقة بين مكاسب هذه الصفقات وتحدياتها.
ولعل أبرز دوافع هذه الاندماجات والاستحواذات يكمن في الحاجة المستمرة إلى ضخ استثمارات ضخمة في مجال البحث والتطوير والابتكار. إن صناعة الأدوية وتقنيات الأجهزة الطبية تتطلب إنفاقا هائلا على التجارب السريرية والدراسات المطولة لاختبار فعالية المنتجات وسلامتها، مما يزيد الضغط على الشركات الأصغر التي قد تعجز عن تأمين الموارد المالية أو الفنية اللازمة للبحث والتطوير على نطاق واسع. وهنا يأتي دور الاندماج أو الاستحواذ، إذ يفسح المجال أمامها لتشارك الموارد والمختبرات والخبرات، فتتوحد الجهود البحثية وتتوزع المخاطر المالية، ما يؤدي إلى تسريع إنجاز المشاريع الرائدة في المجالات الطبية الحيوية، وخصوصا تلك التي تتعلق بأمراض صعبة مثل السرطان والأمراض الوراثية والمستعصية على العلاج التقليدي.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن الاندماج الشركات الكبرى من تحقيق وفورات الحجم عبر دمج سلاسل الإمداد وعمليات التصنيع والتوزيع، فيساهم في خفض التكاليف النهائية. ويمكن لهذه الوفورات أن تنعكس ولو نظريا على تسعير المنتجات والخدمات، بما يضمن استفادة المرضى من انخفاض التكاليف مع المحافظة على جودة العلاج.
وإذا انتقلنا إلى الساحة السعودية، فإن المشهد يحظى بزخم كبير لعدة أسباب، منها الإصلاحات الشاملة في المنظومة الصحية التي تتماشى مع رؤية المملكة 2030، حيث تركز هذه الرؤية على تحقيق قفزة نوعية في مستوى جودة الخدمات الصحية وكفاءتها، وتعزيز شراكة القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني بما في ذلك قطاع الرعاية الصحية. وقد شهدت السنوات الأخيرة توجها أكبر نحو خصخصة بعض المستشفيات والمراكز الطبية الحكومية، في إطار خطة لرفع كفاءة إدارة الموارد وتحسين تجربة المريض. هذا التوجه فتح الأبواب أمام المزيد من اندماجات واستحواذات الشركات المحلية والأجنبية، لا سيما تلك التي تتخصص في تقنيات الرعاية الرقمية أو إنتاج المستلزمات الطبية، والتي ترى في السوق السعودي فرصة مواتية للنمو بفضل الطلب المتزايد ومتانة الاقتصاد.
ومن المؤشرات الدالة على أهمية هذه الصفقات في المملكة، تزايد مساهمة القطاع الخاص في تقديم الخدمات الطبية، وتشجيع إنشاء مجمعات طبية كبرى تمتلك عدة مستشفيات وعيادات تخصصية وصيدليات، وتستعين بشبكات واسعة من الموردين وشركات التأمين.
كما أن هنالك جانبا مهما يتمثل في دور الاندماجات والاستحواذات في تعزيز قدرات البحث والتطوير داخل السعودية. فالشركات المحلية التي تسعى للارتقاء بمستوى أبحاثها الطبية والدوائية تجد في التعاون مع شركات عالمية عبر الاندماج أو الشراكات الاستراتيجية فرصة لاكتساب الخبرات التقنية وتمويل الأبحاث المشتركة. وهذا ينسجم مع الأهداف الوطنية الرامية إلى بناء اقتصاد قائم على المعرفة، وتطوير الكفاءات البحثية المحلية، وتحويل السعودية إلى مركز إقليمي للابتكار الصحي في المنطقة. ومن المتوقع أن تزيد وتيرة هذه الصفقات مع ازدياد الوعي بأهمية التكنولوجيا الصحية، كاستخدام الروبوتات في الجراحة أو الذكاء الاصطناعي في التشخيص والتنبؤ بالأمراض، إضافة إلى أبحاث الجينوم والمعلوماتية الحيوية، وجميعها مجالات تتطلب استثمارات كبيرة وخبرات متخصصة يصعب توفيرها دون تكامل المؤسسات أو تعاونها.
عزيزي القارئ، بالنسبة لأهمية الاندماجات والاستحواذات في تنمية القطاع الصحي في المملكة، فإن تكوين كيانات أكبر وأكثر شمولا يرفع من مستويات التنافسية في السوق المحلي، ويحفز الشركات على تقديم خدمات أفضل وأسعار أكثر تنافسية وفي الوقت نفسه قد تشهد بعض العمليات اندماج شركات كبرى. ويظل دور الهيئات التنظيمية والرقابية والجهات المشرعة للخدمات الصحية حاسما في الحفاظ على توازن السوق ومنع استغلال هيمنة تلك الكيانات على حساب المستهلك. ومن زاوية أخرى، تتيح هذه الصفقات نقل التكنولوجيا الحديثة إلى السوق المحلي ورفع مستوى الكوادر البشرية من خلال برامج التدريب والتأهيل التي غالبا ما تصاحب صفقات الدمج والاستحواذ.
كما تساهم في بناء سلاسل توريد أكثر تكاملا، فمن خلال التوحيد في عمليات الشراء والتخزين والتوزيع، يتسنى توفير الأدوية والمستلزمات الطبية بكفاءة أكبر، وتقليل الأخطاء اللوجستية ونقاط الضعف في الإمداد.
nabilalhakamy@
0 تعليق