خلال الأسبوع الماضي، كنت فـي زيارة إلى محافظة ظفار، حيث قضيت بضعة أيام فـي صلالة، المدينة التي تحمل طابعًا مختلفًا خارج موسم الخريف بعيدًا عن الضباب والرذاذ الموسمي، تكشف صلالة عن وجهها الحقيقي، حيث تمتزج الطبيعة بالتاريخ، ويظهر عمقها الثقافـي الغني بعيدًا عن ازدحام السياح. فـي إحدى جولاتي، وجدت نفسي أمام ضريح يُنسب لأحد الأولياء الصالحين، ممن يتبرك بهم الناس، فدخلت بدافع الفضول لأجد قبرًا طويلًا بشكل لافت، تحيط به آثار البخور والنذور التي تركها الزائرون.
كانت ردة فعلي الأولى أن هذه الممارسات لا تتوافق مع التعاليم الدينية، إذ لا يجوز التبرك بالقبور أو زيارتها بغرض طلب البركة، لكن هذا المشهد -رغم تحفظي عليه- جعلني أتأمل كيف تؤدي الخرافات والأساطير دورًا فـي تشكيل وعي المجتمعات، بل وكيف يمكن توظيفها لخدمة التراث والسياحة والصناعات الثقافـية الأخرى، فالعالم مليء بأساطير مماثلة، بعضها تحول إلى عنصر جذب سياحي واقتصادي، رغم أن العقل والمنطق يرفضانها تمامًا.
تأملت كيف أن دولًا كثيرة استخدمت الأسطورة والخرافة لصنع هوية ثقافـية وسياحية مميزة لها، فرومانيا مثلًا ربطت نفسها بأسطورة دراكولا، واسكتلندا صنعت حول وحش بحيرة لوخ نيس لغزًا يجذب ملايين السياح، بل وحتى اليابان، التي تعد من الدول الأكثر تقدمًا فـي التكنولوجيا، لا تزال تستثمر فـي أساطير «اليوكاي» والمخلوقات الغامضة لتعزيز تراثها الشعبي. هذه الأساطير، رغم بعدها عن الواقع، باتت جزءًا لا يتجزأ من هوية تلك الدول، وجعلت منها وجهات يقصدها الناس بحثًا عن الغموض والإثارة.
بحثت مطولًا فـي هذا الموضوع، محاولًا استكشاف مدى حضور الأسطورة والخرافة فـي المشهد الثقافـي العماني، فوجدت أن سلطنة عمان لديها مشروع طموح يُعنى بجمع وتوثيق الحكايات والأساطير المرتبطة بالأمكنة، فـي محاولة للحفاظ على هذا الإرث الثقافـي ونقله للأجيال القادمة. شدّني هذا المشروع لأنه يعكس وعيًا بأهمية هذه القصص فـي تشكيل الهوية الثقافـية وتعزيز السياحة حيث إنني لطالما كنت أرى أن الحكايات الشعبية ليست مجرد قصص تُروى للتسلية، بل هي ذاكرة الشعوب، وأحد أهم الجسور التي تربط الماضي بالحاضر، وتضفـي على الأمكنة روحًا تتجاوز مجرد كونها مواقع جغرافـية.
المثير فـي هذا المشروع أنه لا يكتفـي بجمع الحكايات، بل يسعى إلى توظيفها فـي الترويج السياحي، بحيث تصبح أماكن مثل الكهوف والمغارات والقلاع والحصون والعيون المائية والنقوش القديمة، ليست مجرد مواقع أثرية، بل محطات مشوّقة للباحثين عن الغموض فـي أعماق التاريخ المتداخل مع الخيال. توقفت عند أمثلة كثيرة تزخر بها محافظات سلطنة عمان من مسندم حتى صلالة فعددت مثلا آثار ناقة النبي صالح، وضربة علي، والمكحلة العربية، وقصة قلعة نزوى وسور بهلا وغيرها من المواقع التي تحمل فـي تفاصيلها قصصًا لم تُروَ بعد للعالم.
هذا المشروع جعلني أتساءل: لماذا لا نعطي هذه القصص بعدًا عالميًا كما فعلت دول أخرى؟ لماذا لا نعيد تقديمها بأسلوب عصري يجعلها مصدر جذب للسياح والباحثين؟ فبينما يبحث العالم عن تجارب استثنائية تمتزج فـيها الحقيقة بالخيال، تمتلك عمان كنزًا من الحكايات التي لم تستثمر بعد بالشكل الذي تستحقه.
صناعة الأساطير والخرافات لم تقتصر على قطاع السياحة فحسب، بل تجاوزته لتشمل قطاعات متعددة مثل الترفـيه، والسينما، والإنتاج التلفزيوني والوثائقي، وقطاعات النشر، والألعاب الإلكترونية، وغيرها من الصناعات الإبداعية التي استفادت من هذه الحكايات فـي تحقيق نجاحات اقتصادية وثقافـية.
على سبيل المثال، السينما العالمية صنعت من الأساطير والخرافات علامات تجارية مربحة، مثل أفلام «هاري بوتر» التي استلهمت عالم السحر والخرافة وحققت إيرادات تجاوزت المليارات، وأفلام «سندريلا» التي تحولت إلى رمز عالمي تكررت إعادة إنتاجه فـي أفلام ومسلسلات وأعمال مسرحية. أما «دراكولا»، فقد جعلت من رومانيا وجهة سياحية مشهورة، وأصبحت القصة أساسًا لعشرات الأفلام والروايات التي حققت نجاحًا عالميًا.
أما فـي قطاع النشر، فإن الروايات المستوحاة من الأساطير تواصل تحقيق مبيعات ضخمة، مثل سلسلة «سيد الخواتم» التي بُنيت على ميثولوجيا غنية وتحولت إلى أفلام ضخمة وألعاب فـيديو ومجموعة واسعة من المنتجات التجارية.
حتى الأفلام الوثائقية لم تغفل هذا الجانب، حيث تنتج منصات كبرى مثل نتفليكس وناشيونال جيوغرافـيك محتوى يستكشف الأساطير الشعبية والقصص الغامضة، مما يعكس الطلب المتزايد على هذه الحكايات فـي مختلف أشكال الترفـيه والإعلام.
هنا يتضح أن الأساطير ليست مجرد موروث ثقافـي فحسب، بل هي أيضًا مورد اقتصادي ضخم يمكن استغلاله بذكاء فـي قطاعات متنوعة، مما يجعلها أداة فعالة لتعزيز الهوية الثقافـية وتحقيق عوائد اقتصادية فـي الوقت ذاته.
من هذا المنطلق، فإن استثمار سلطنة عُمان فـي أساطيرها المحلية، سواء عبر السياحة أو من خلال الصناعات الإبداعية، يمكن أن يشكل فرصة اقتصادية واعدة. ففـي الوقت الذي تنجح فـيه العديد من الدول فـي تصدير أساطيرها إلى العالم، لا يزال أمامنا مجال واسع لإحياء تراثنا الشعبي وتقديمه بأساليب عصرية تضعُه فـي صدارة الصناعات الثقافـية والسياحية.
0 تعليق