"التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية" يوثق صورة حية من الشتات والمقاومة

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
عمان- يؤكد كتاب "التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية - دراسات وشهادات"، الصادر عن دار العائدون للنشر والتوزيع، أهمية الحفاظ على ذاكرة النكبة الفلسطينية، حيث يوثق من خلال هذه الشهادات المساهمة في تعزيز الوعي بالأحداث التاريخية، وحماية الحقوق الفلسطينية من محو التاريخ أو تزييفه.اضافة اعلان
يعد هذا الكتاب الذي يضم 14 دراسة أكاديمية لأكاديميات وأكاديميين متخصصين في علم الاجتماع والجندر وتاريخ فلسطين، وهو من تقديم وتحرير كل من الدكتورة نهلة عبدو والدكتور نور مصالحة وترجمة الدكتورة لمى سخنيني؛ مرجعا مهما في توثيق الأحداث والمآسي التي مر بها الشعب الفلسطيني خلال وبعد النكبة العام 1948، ويعد استخداما مميزا للتاريخ الشفوي والذكريات الشخصية، حيث يسعى إلى تقديم صورة حية وشاملة عن معاناة الفلسطينيين.
ويسلط الكتاب الضوء على التأثير العميق للنكبة على الهوية الفلسطينية. كما يوثق تجارب الفلسطينيين التي تحمل في طياتها قصصا من الشتات والمقاومة، ويعرض كيفية تفاعل الأجيال المختلفة مع تلك التجارب في سياق المقاومة الثقافية والسياسية، ومن خلال هذا التاريخ الشفوي، نقل المعاناة الفلسطينية على مر السنين، ويوضح آثار النكبة في تشكيل الهوية الجماعية، والمقاومة المستمرة ضد محاولات محو الوجود الفلسطيني.
يشير المحررون إلى أن نشر هذا الكتاب "التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية" في زمن الإبادة الجماعية خلال "الحرب الإسرائيلية على غزة" (الحرب المدعومة من الإمبريالية الأميركية) هو أمر مؤلم للغاية. وفي الوقت نفسه، يعد هذا الكتاب تذكيرا مؤثرا للمحررين والمساهمين فيه ولقرائه.
في كلمة على غلافه الكتاب بعنوان "أبناء النكبة يحكون تاريخهم"، جاء فيها "يَستخدم هذا العمل الجماعيّ التاريخ الشفوي والذكريات الشخصية والسرديات والمقابلات لدراسة وتحليل وتمثيل النكبة الفلسطينية/ الإبادة الجماعية، قبل وأثناء وبعد إنشاء دولة الاستيطان الاستعمارية الإسرائيلية في عام 1948. التخصصات المتعددة والمناهج المقدمة في هذا الكتاب تشمل؛ النكبة الفلسطينية المعقدة وشدتها، وتعيد إنتاج آثارها التاريخية والمعيشية في ضوء جديد. يشهد جميع المؤلفين تقريبًا، في هذا المجلد، على مرونة النكبة كخبرة وذكريات وتجذرها في الحياة الوجودية للفلسطينيين. يتحدى هذا التجذّر كل الجهود الإسرائيلية والدولية لإسكات النكبة على مدى السنوات السبعين الماضية. يرى جميع المؤلفين في هذا الكتاب أن النكبة عملية ممنهجة وليست حدثًا. ومع ذلك، فإن الذكريات والسرديات للكوارث والرعب الذي لحق بالفلسطينيين خلال أشهر إنشاء دولة إسرائيل قد نحتت مساحة عميقة، وما زالت تنحت في ذاكرة أولئك الذين عاشوها والأجيال التي تلَتْهم.
وعلى سبيل المثال، نستمع في أحد البحوث إلى أصوات بَدويّات من النقب، من جيل 1948 وبناتهن، وهي أصوات تسلط الضوء على مقاومتهن الجماعية للنزوح المستمر، وتتأمل كيف تعيد النساء سرد تاريخ النقب واستعادة أراضيهن. ومن خلال الممارسات الشفوية والمكانية، تؤسس هذه القصص هوية إقليمية وشعورًا بالانتماء إلى المكان بين أطفالهن، وتساهم في تثقيفهم ليكونوا أصحاب الأرض عبر فترة أكثر من سبعين عامًا".
كتبت نهلة عبدو مقدمة للكتاب تقول فيها إنها انتهت من هذا الكتاب بتاريخ (19/1/2025)، أي بعد الإعلان عن "وقف إطلاق النار في غزة"، لافتة إلى أن ما يطلق عليه الهدنة هو تسمية مصطنعة ومضللة لكل ما كان يحدث في غزة. ففي أكثر من خمسة عشر شهرا، أو ما يقارب الـ470 يوما، لم تكن القضية مجرد عملية إطلاق نار من دولة الاستعمار الصهيوني أو الرد عليها من قبل المقاومة في غزة، بل كانت من خلال هذه الأيام والأشهر، تتعرض غزة إلى إبادة جماعية تقتل البشر والشجر والحجر... إبادة جماعية، أو "إبادة العرق"، كما يسميها مكرم خوري مخول، التي وصفها بأنها الأبشع والأقسى والأكثر إجرامًا في التاريخ الحديث.
وبعد أيام قليلة من دخول هذه الهدنة حيز التنفيذ، بدأت تظهر نتائج الهجمات الهمجية، والقتل، والتنكيل، وقصف المباني السكنية والمستشفيات، وفي العديد من الأحيان قُتل المرضى وبعض الأطقم الطبية، بالإضافة إلى تجريف الشوارع والطرقات، مما جعل غزة غير قابلة للحياة. في انتظار نتائج هذه الهدنة، التي يصعب علينا التكهن بمصداقيتها، يكفي القول إن ما يقارب الـ200,000 فلسطيني من غزة وحدها قد قُتلوا أو جرحوا، والبعض ما تزال جراحاتهم خطيرة. وكما أفيد، فإن غالبية هؤلاء الضحايا هم من النساء والأطفال. وفي الوقت نفسه، قصفت إسرائيل قرى ومدن ومخيمات لاجئين في الضفة المحتلة، وقتلت ما يناهز الـ880 مواطنًا، معظمهم من النساء والأطفال.
وترى عبدو أن ما فعلته إسرائيل في قطاع غزة، وبالذات في الشمال، كان يهدف إلى تنفيذ "عقيدة الجنرالات"، التي تقضي بتطبيق استراتيجية الحصار التي اقترحها الجنرال الإسرائيلي السابق جيورا آيلاند خلال الحرب على غزة. وتهدف هذه الخطة إلى الإخلاء الكامل لشمال غزة من خلال اعتبار جميع المدنيين المتبقين أهدافًا عسكرية، بالإضافة إلى منع دخول الإمدادات الأساسية مثل الغذاء والدواء إلى المنطقة.
تشير عبدو إلى أن إسرائيل استخدمت "عقيدة جباليا" على غرار "عقيدة الضاحية"، التي تتضمن "إبادة الحاضنة الاجتماعية للمقاومة". هذه العقيدة مبنية على فكرة خنق المقاومة من خلال إبادة البنية المجتمعية الفلسطينية وفرض واقع جديد عبر استراتيجيات تشمل التدمير، والتهجير، والحرب النفسية. ولا تختلف هذه الاستراتيجيات المطبقة في غزة كثيرًا عن الإبادة الجماعية التي ارتُكِبت خلال النكبة/الإبادة في 1947-1948، والتي أدت إلى قصف وتدمير أكثر من 500 قرية ومدينة فلسطينية وتهجير أكثر من 75 % من الفلسطينيين.
تؤكد عبدو أن عقيدة القضاء على الفلسطينيين وتهجيرهم واستبدالهم بالمستعمرين اليهود ليست جديدة أو مبتدعة، بل هي متأصلة في العقيدة والأيديولوجيا الصهيونية منذ نشأتها، وتعاونها المباشر مع الاستعمار البريطاني، ومن بعده الاستعمار الغربي، وبالخصوص الأميركي. فالعقيدة الصهيونية فيما يتعلق بفلسطين وشعبها وحضارتها هي عقيدة إنكار/نفي: إنكار الوجود الفلسطيني في فلسطين (التي أصبحت لاحقًا إسرائيل)، وتغييب حقيقة الفلسطينيين من خلال القول بأن الأرض كانت خالية، مما يروج للمقولة المفبركة "شعب بلا أرض" كمبرر للاستعمار الصهيوني. وقد مورست هذه العقيدة وما تزال إلى يومنا هذا. ومن أخطر المجالات التي كرست فيها هذه العقيدة مجال التعليم لطلاب المدارس اليهودية. كما أكدت نوريت بيلد-إلحنان (2015) أنه قد اختفت كلمة "فلسطين" واختفى الشعب الفلسطيني من الكتب المدرسية اليهودية.
تشير عبدو إلى ما ذكرته نوريت بيلد في تعمقها بدراسة وتحليل المحتوى التعليمي/العلمي لمواد التاريخ والجغرافيا والمواطنة في الكتب المدرسية، حيث تصرح الكاتبة بأن هذه الكتب تقسم المواطنين إلى فئتين متناقضتين: المجموعة الداخلية اليهودية-الغربية المتفوقة، التي تدعي أحقيتها بملكية الأرض في فلسطين، مقابل المجموعة الفلسطينية الخارجية والمتخلفة. كما أقرت الكاتبة أن القرى التي تركها الفلسطينيون بعد المجازر يُطلق عليها في القانون الإسرائيلي اسم "قرى مهجورة" أو بالأحرى "مهجرة"، وذلك لإضفاء الشرعية على رفض السماح للفلسطينيين باستعادة أراضيهم. كذلك، قامت إسرائيل بتغيير أسماء هذه القرى إلى أسماء توراتية أو تلمودية (Peled-Elhanan, 2012: 106).
وتضيف "يتم تعليم الأطفال الإسرائيليين في المدارس أن الفلسطينيين غير موجودين، وعندما يظهرون في الكتب المدرسية، يكونون إما لاجئين أو إرهابيين (بيلد-إلحنان، 2012: 91). وأخيرًا، لابد من التذكير أنه خلال فترة عملها كرئيسة لوزراء إسرائيل، أعلنت غولدا مائير: "لم يكن هناك شيء اسمه فلسطينيون، لم يكونوا موجودين قط"، وقد تساءلت في وقت سابق: "كيف يمكننا إعادة الأراضي المحتلة؟ ولا يوجد من يعيدهم إليها". تعمل الأيديولوجية الإسرائيلية باستمرار على تصوير الفلسطينيين على أنهم غير إنسانيين، من أجل تبرير سرقة أراضيهم".
وخلصت عبدو "ففي حالة محو الذاكرة والتاريخ والجغرافية الفلسطينية من عقول وقلوب الطلاب اليهود وتعبئتهم بمفاهيم مليئة بتحقير ونبذ الآخر الفلسطيني (والذي لا ينتمي لليهودية التلمودية)... لا عجب بأن يتعامل الجندي الإسرائيلي بهذه الطريقة الهمجية والفاشية مع الشعب الفلسطيني في غزة. هنالك صور وفيديوهات عديدة على وسائل التواصل الاجتماعية تظهر فرحة وشماتة الجنود عند مقتل الفلسطيني، امرأة كانت، طفلًا أو رجلًا، أو قصف المنازل فوق رؤوس أصحابها. فصرخات الطفلة هند رجب وهي تطلب النجدة من الدبابة الإسرائيلية المتوجهة نحوها لقتلها، ستبقى عالقة للأبد في مخيلة كل من رآها في العالم. نعم، يختلف شكل هذه الإبادة الجماعية عن تلك التي اقترفت في نكبة الـ1948 والتي غلب عليها التهجير القسري وهدم القرى على القتل والتدمير الشامل، ولكن وفي الحالتين، ومهما اختلف الشكل، فالمضمون والغاية الصهيونية كانا وما يزالان ذاتهما: محو وإلغاء الفلسطيني من الوجود في أرضه ووطنه وبيته. ومن هنا يظهر الترابط بين الإبادتين وتظهر الإبادة الحالية في غزة وكذلك المحاولات في الضفة الغربية كاستمرارية وسيرورة لنكبة الـ1948. فكما علمنا خبراء دراسات الاستعمار الكولونيالي والإبادة للسكان الأصليين، فإن طبيعة الدول الكولونيالية الاستعمارية تنم عن القضاء على السكان الأصليين".
فقد كان التدمير الصهيوني لجزء كبير من فلسطين التاريخية وطرد أكثر من نصف الفلسطينيين في نكبة فلسطين العام 1948، مصحوبًا بـ"إبادة ثقافية" استعمارية استيطانية منهجية؛ الفترة الأكثر همجية وصدمة في تاريخ فلسطين الحديث.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق