شخصية علمية مؤثرة في تاريخ الإنسانية؛ له دور جليل في تطور علمي الطب وصناعة الدواء، فلقد كرس حياته في خدمة الإنسان وشفائه من جراحه البدنية، وفي تطوير صناعة الأدوية، وتقديم الدعم والمساندة للمريض والبحث عن كل السبل وشتى الوسائل الطبيبة من أجل التخفيف عن الآلامه ومعانته، جمع بين الجانب النظري والجانب التطبيقي، وساهم من خلال مؤلفاته القيمة في تطور مسيرة علمي الطب والصيدلة.
نشأ الطبيب راشد بن عميرة بن ثاني بن خلف الهاشمي في قرية عيني وهي القرية المحيطة بعين الكسفة، وعاش بين القرنيين السادس عشر والسابع عشر الميلادي في بيت يعمل العديد من أفراده في مهنة الطب، فتلقى علم الطب والصيدلة من والده الذي كان طبيبا وفقيها، ومن قبله كان أخو جده الطبيب راشد بن خلف الذي درس العلم على يده عدد من أطباء زمانه مثل محمد بن عبد الله بن مداد الناعبي، وسعيد بن زياد بن أحمد البهلوي، ومن أفراد عائلة ابن هشام كذلك ممن اشتغل في الطب الطبيب راشد بن خلف بن محمد، وعلي بن مبارك بن خلف بن محمد، وخلف بن هاشم بن عبدالله بن هاشم.
نهل راشد بن عميرة تعليمه الأولي في قرية عيني في الثلث الأخير من القرن العاشر الهجري على يد والده عميرة بن ثاني الذي كان حريصا على تعليم ولده كل ما يتعلق بعلم الطب؛ حتى يكون طبيبا حاذقا، متقنا لعمله، ودرس العلوم الدينية واللغوية وعلم الفلسفة، حيث كانت دراسة الفلسفة متطلب دراسي مهم لدراسة الطب، وفي ذلك يقول جالينوس:" إن الطبيب الفاضل فيلسوف كامل".
لم يكتف طبيبنا راشد بن عميرة في تلقي تعليمه من والده فقط بل حرص على أن يتعلم ويمارس الطب على يد عدد من أطباء عصره، وكان دائما ما يقول أن طالب الطب لابد له أن يتعلم على يد عالم وطبيب ماهر وألا يكتفي بالتعلم من الكتب فقط فلا بد من الجانب التطبيقي الذي لن يتحصل إلا عن طريق الأستاذ الحاذق الذي يدرب الطالب تدريبا عمليا وعلميا، وفي ذلك كتب ينصح من جاء بعده من الأطباء حيث قال:" يجب على من أراد تعلم الطب أن يكون تعلمه نقلا عن شيخ؛ فقد روي في الأخبار أن تعلم الطب من الكتب قَتَل الأنام، ومن تعلم النجوم من الكتب غَيَّر الليالي والأيام، ومن تعلم المواريث من الكتب ظَلم الأيتام “
ألف العديد من الكتب منها كتابه منهاج المتعلمين، الذي كتبه ردا على سؤال وجهه له ولده عميرة، حيث يقول في مقدمة كتابه:" هذا مختصر في النكت الحكيمة مما سألني عنه ولدي عميرة بن راشد بن عميرة بن ثاني بن خلف الهاشمي الرستاقي العماني، عفا الله عنهم بعفوه ورحمته إنه سميع مجيب، فأجبته بما صح عندي من المعرفة على قدر السؤال، وبالله التوفيق" اشتمل هذا الكتاب على عدد من النصائح الثمينة التي قدمها لولده مثل دعوته له إلى تدريب الذهن على الحفظ، وتدريب اللسان على الطلاقة البلاغية عن طريق حفظ القرآن الكريم، وحفظ المطولات الشعرية فيقول له: " ومما يطلق اللسان كثرة استعمال البلاغة، وفظ الكتب المصنفة في ذلك، والكتاب العزيز". واشتمل الكتاب على ذكر أعراض عدد من الأمراض وكيفية تشخص كل مرض، وحدد الوصفات العلاجية لها.
ويشير ابن عميرة إلى أن سبب تأليفه لهذه الكتب أنه أرد حفظ هذا العلم من الضياع بعد موته، وأنه لاحظ أن المؤلفات العمانية في مجال الطب قليلة لا تشف غليل الباحث عن المعرفة الطبية، وفي ذلك يقول في مقدمة أحد كتبه شارحا طريقته في الكتابة، والهدف من كتابته لهذه الكتب:" نظرت إلى كثير من كتب أهل عمان فوقفت على نظم لهم في علمي الأحكام والأديان وفي علم اللسان، ولم أقف على نظم لهم في علم الأبدان، فدعتني الرغبة إلى أن أنظم مختصرا من كتاب الرحمة في الطب والحكمة وحذفت بعض الأبواب من أوله وأشرت إلى بعضها إشارة وأدخلت أشياء من مختصر أبو قراط ومن كتاب برء ساعة لمحمد بن زكريا من تقويم الأبدان عن محمد بن إبراهيم ومن منهاج البيان، وغير ذلك فمن وقف على ما نظمته فليسد إذا رأى خللا أو زللا وله من الله كل جزاء".
ألف الطبيب ابن عميرة كتاب فاكهة ابن السبيل ويعد هذا الكتاب أهم كتبه، وأكثرها شهرة، وذكر في مقدمته أن الهدف من كتابه هذا أن يكون دليلا استرشاديا للأطباء المتخصصين ليعودوا له في حال احتاجوا مراجعة أي معلومة عن دواء أو مرض، فهو لم يكتبه لطلاب الطب وإنما كتبه للأطباء المحترفين المزاولين للمهنة، لذا فالكتاب يضم معلومات قيمة ودقيقة، ولقد كتب ابن عميرة الكتاب في جزأين وذكر في مقدمة كتابه " وسميت هذا المختصر فاكهة ابن السبيل لأنه قليل الحجم، كثير العلم يستغنى به عن جمل الكتب الكثيرة"
وبعد أن انتهى من تأليف كتاب فاكهة ابن السبيل، شرع في تأليف كتاب يختصر فيه كتاب فاكهة ابن السبيل يضم فقط الأدوية التي جربها بنفسه ووجد فيها فائدة كبيرة للمرضى، وعنونه بعنوان مختصر فاكهة السبيل وكتب في مقدمته قائلا:" ولما أنعم الله عليَ بقبول الكتاب المختصر المسمى فاكهة ابن السبيل دعتني نفسي أن أجمع منه مختصر لحال الأسفار، وقد بالغت فيه من الاختصارات ما استطعت، وجعلته في علاج الأمراض بالأدوية المجربة فيما عندي ".
قدم الطبيب راشد بن عميرة خدماته العلاجية مجانا، بل وفي كثير من الأحيان كان يوفر الدواء من ماله الخاص لمن لا يستطيع دفع قيمته. وكان حاذقا ملما في مجاله مجتهد في عمله وفي الاستمرار على التدرب والتدريب، فنال شهرة واسعة داخل عمان وخارجها، وتتناقل الأجيال قصة له توضح مدى شهرته ومدى إصراره على تعلم كل جديد في الطب، حيث يحكى عنه أنه أصيب بالعمى في إحدى عينيه وحاول جاهدا معالجتها عن طريق وصفة طبية كان يعدها بنفسه مكونة من ستة مواد ولكن وصفته الطبية لم تنجح في شفاء عينه، فقرر السفر إلى الهند لزيارة طبيب هندي اشتهر بإعداد وصفة علاجية لعلاج العيون ، وفعلا قابل الطبيب الهندي ولكن دون أن يعرفه بنفسه، وبعد أن عاين الطبيب الهندي عين ابن عميرة، أعد له الوصفة لعلاج عينه، فطلب منه ابن عميرة أن يتذوقها، ومن خلال حاسة التذوق تعرف على مكوناتها الدوائية وعرف أن وصفة الطبيب الهندي تتكون من سبعة عناصر، وتمكن من تحديد العنصر السابع المفقود في وصفته، حينها قال له الطبيب الهندي أنت إذن الطبيب العماني راشد بن عميرة لأنه هو فقط من يمتلك مثل هذا الموهبة والمهارة. وتدلنا هذه القصة على مدى شهرة الطبيب العماني ومعرفة أطباء عصره بمهارته الطبية وتقديرهم له. أما على المستوى المحلي فكانت براعة ابن عميرة في الطب مدعاة لان تضرب إليه أكباد الإبل، فكان القاصي والداني يلجأ إليه لطلب العلاج
ومن مؤلفات راشد بن عميرة كذلك كتاب مقاصد الدليل وبرهان السبيل، وكتاب زاد المسافر، ونظم ابن عميرة عدد القصائد الشعرية التي يشرح فيها عدد من الأمراض وطرق علاجها.
ولا يعرف على وجه الدقة سنة وفاة الطبيب راشد بن عميرة، ولكن أشار في كتابه منهاج المتعلمين إشارة توضح أنه كان على قيد الحياة في سنة 1019هـ/ 1610م، ومن المرجح أنه توفي بعد أن تجاوز المائة من العمر. رحمه الله وأحسن إليه فلقد قدم للإنسانية الكثير من خلال كتبه وأدويته التي أنقذ بها حياة الكثيرين وساهمت كتبه في نقل المعرفة الطبية للأجيال التي جاءت بعده.
0 تعليق