ترجمة - بدر بن خميس الظفري -
بالقدر المعتاد من التواضع الذي ألفناه من الرئيس دونالد ترامب فقد أبلغ الكونجرس مساء الثلاثاء أنه دخل بالفعل في «أعظم وأكثر الفترات نجاحًا في تاريخ بلادنا». وأكد للنواب المجتمعين أنه «حقق خلال 43 يومًا ما لم تحققه معظم الإدارات السابقة خلال أربع أو ثماني سنوات». وبحزمة من الإحصاءات المشكوك في صحتها، اعتبر ترامب أن «الشهر الأول من رئاستنا هو الأكثر نجاحًا في تاريخ أمتنا، والأكثر إثارة للإعجاب. إنكم تعرفون من صاحب المركز الثاني؟ جورج واشنطن».
ضحك الجمهوريون وهللوا وصفقوا.
في العادة، يمكن اعتبار مثل هذا الكلام من ترامب مجرد استعراض أجوف لكن إنصافًا للحقيقة، لا يمكن إنكار أنه دخل التاريخ من أبوابه بالفعل. فليس من المبالغة القول إنه، وخلال الأيام الخمسة الأخيرة فقط، أعاد الولايات المتحدة قرنًا من الزمن إلى الوراء. ففي يوم الاثنين، فرض ترامب أكبر زيادة في الرسوم الجمركية منذ عام 1930، منهيًا حقبة التجارة الحرة التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أطلق شرارة هذه الحرب التجارية بعد ثلاثة أيام فقط من توجيهه ضربة قاسية للنظام الأمني الذي حافظ على الازدهار والحرية طوال ثمانية عقود. ففي المكتب البيضاوي، باغت ترامب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وتبع ذلك وقف المساعدات العسكرية الأمريكية لدولة تعاني ضعفا عسكريا واضحا، ما أصاب الحلفاء بالذهول وأسعد موسكو. وعلّق المتحدث باسم الكرملين بأن ترامب «يغير بسرعة كل ترتيبات السياسة الخارجية» بشكل «يتماشى إلى حد كبير مع رؤيتنا». ماذا عن الحلفاء التقليديين؟ قال رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو يوم الثلاثاء: «لقد شنت الولايات المتحدة حربًا تجارية ضد كندا، أقرب شريك وحليف وصديق لها». وأضاف: «وفي الوقت نفسه، يتحدثون عن العمل بشكل إيجابي مع روسيا، ومهادنة فلاديمير بوتين الديكتاتور القاتل. كيف يمكن أن يكون هذا منطقيًا؟».
الجواب الوحيد المنطقي هو أن تؤمن، رغم كل الأدلة، بأن الأمريكيين كانوا أفضل حالا قبل 95 عامًا مما هم عليه اليوم. ومن الواضح أننا سنضطر إلى إعادة تعلم هذا الدرس بطريقة صعبة. فالعاصفة من الأوامر التنفيذية التي يوقعها ترامب، رغم أنها تثير قلقًا دستوريًا، يمكن للرئيس المقبل إبطالها. وحتى التخريب المتعمد الذي يمارسه إيلون ماسك ضد الوكالات الفيدرالية والعمالة الحكومية، رغم أضراره الكبيرة، يمكن إصلاحه مع مرور الوقت. لكن ما من حل بسيط لما أحدثه ترامب من تمزيق للترتيبات الأمنية والتجارية التي ضمنت الأمن والحرية لأجيال. وكما أوضح لي دوجلاس إيروين، الخبير الاقتصادي في كلية دارتموث والباحث في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي: «بالتأكيد لم نعد في عالم ما بعد الحرب». وقد أشار إلى أن رفع ترامب للرسوم الجمركية هو الأكبر منذ قانون تعريفة سموت-هاولي لعام 1930، الذي عجّل بدخول البلاد في الكساد الكبير. وبحسب إيروين، فإن تعريفات ترامب الحالية، التي تطال واردات تعادل 4.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، سيكون لها وقع أشد من تعريفة سموت-هاولي التي شملت 1.4 في المائة، وتعريفات إدارة ماكينلي في تسعينيات القرن التاسع عشر التي طالت 2.7 في المائة من الناتج المحلي (وتبعتها أيضًا أزمة اقتصادية طويلة). ويرى إيروين أن هذه التعريفات «مرشحة لأن تكون أكثر إضرارًا» نظرًا لاعتماد الاقتصاد الأمريكي اليوم على «السلع الوسيطة»، مثل قطع غيار السيارات اللازمة للإنتاج الصناعي. وبحسب تقديراته، رفع ترامب متوسط التعريفات الجمركية على الواردات إلى 10 في المائة، وهو مستوى لم يُشهد منذ عام 1943.
وفي وقت متأخر من مساء الثلاثاء، وبعد يومين متتاليين من هبوط الأسهم، لمح وزير التجارة هوارد لوتنيك إلى احتمال التراجع، قائلًا إن الإدارة «ربما» تعلن الأربعاء عن نيتها الاجتماع مع كندا والمكسيك «للوصول إلى حل وسط». لكن حتى لو تراجع ترامب سريعًا عن الحرب التجارية التي أشعلها لتوه، فإن آثارها ستظل عميقة وطويلة الأمد، إذ نسف مسار تحرير التجارة الذي سار عليه العالم منذ عام 1932. بفرضه رسومًا جمركية بنسبة 25 في المائة على كندا والمكسيك، انتهك روح، وربما نص، اتفاقية الولايات المتحدة – المكسيك - كندا التي تفاوض عليها بنفسه خلال ولايته الأولى. ويتساءل إيروين: «أي دولة ستوقع اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة مستقبلًا إذا علمت أننا قد نجد ذريعة لفرض رسوم جمركية في أي لحظة؟» وبدلًا من تعزيز النظام التجاري، يتوقع عودة «العملية الفاسدة» التي سادت قبل ثلاثينيات القرن الماضي، حيث تظل الرسوم قائمة وتتنافس الشركات لكسب رضا الرئيس للحصول على استثناءات.
وكما هو متوقع، لم تتأخر الردود الانتقامية. فقد فرضت كندا رسومًا بنسبة 25 في المائة على بضائع أمريكية بقيمة 155 مليار دولار، وتعهد رئيس وزراء أونتاريو بالرد «بضعف القوة»، عبر فرض رسوم مماثلة على الكهرباء المصدرة للولايات المتحدة، مع التهديد بقطع الكهرباء بالكامل. وفي الصين، فُرضت رسوم تصل إلى 15 في المائة على الواردات الأمريكية، مع وقف بعض الصادرات. أما رئيسة المكسيك، كلوديا شينباوم، فوصفت مبررات ترامب للرسوم الجمركية بأنها «مهينة وكاذبة وبلا أساس»، مشيرة إلى أنها ستعلن عن خطط الرد خلال عطلة نهاية الأسبوع.
وما زال ترامب يصعّد. فعندما قال ترودو إن ترامب يريد «انهيار الاقتصاد الكندي لتسهيل ضمها للولايات المتحدة»، سارع ترامب للسخرية منه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، واصفًا إياه بـ«الحاكم ترودو»، ومتعهدًا بأنه «إذا فرض تعريفات انتقامية، سنرد بالمثل!». وخسر مؤشر داو جونز أكثر من 1.300 نقطة. وتصاعدت توقعات التضخم. (ويقول معهد بيترسون إن تعريفات ترامب ستكلف الأسرة الأمريكية المتوسطة 1.200 دولار سنويًا). وأعلنت متاجر كبرى مثل تارجت وبيست باي عن زيادات في الأسعار. أما بنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا فقد خفض توقعاته للنمو الاقتصادي من 2.3 في المائة إلى انكماش بنسبة 2.8 في المائة.
وفي الأسابيع المقبلة، يهدد ترامب بالمزيد من الرسوم على مزيد من الدول والبضائع. في ولايته الأولى، غرد ترامب قائلًا إن «الحروب التجارية جيدة وسهلة الفوز»، لكنه كان يمتلك آنذاك قدرًا من الحكمة ليتجنب الدخول في تجربة هذه الفرضية بجدية. أما الآن، فقد بات لزامًا علينا جميعًا اكتشاف ما يعنيه خوض حرب تجارية.
تزداد خطورة تحركات ترامب لتفكيك بنية التجارة العالمية التي ترسخت على مدار القرن الماضي حين تقترن بمحاولاته تقويض التحالفات التي حافظت على الأمن طوال تلك الفترة. وكما أفادت فرانسيسكا إيبل من صحيفة «واشنطن بوست» من موسكو، ترى حكومة بوتين في إذلال ترامب لزيلينسكي «هدية عظيمة» عززت طموحات روسيا في تقسيم الغرب. ووصف الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف ما حدث بأنه «صفعة حقيقية» للمتغطرس «زيلينسكي». أما الزعيم المجري فيكتور أوربان، فلم يتردد في الاحتفال قائلًا: «شكرا لك، سيد الرئيس!». وبينما يلقي ترامب باللوم على الضحية في الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا، تزداد جرأة الصين في سعيها لضم تايوان. ونقلت صحيفة «ساوث تشاينا مورنينغ بوست» عن محللين أن الخلاف بين ترامب وزيلينسكي جزء من «إعادة ترتيب ممنهجة» للمشهد الجيوسياسي، حيث تجد بكين نفسها في موقع مثالي للاستفادة من «الانهيار السريع للغرب»، بما يعزز شرعية «رؤية بكين لنظام عالمي ما بعد أمريكا».
وفي الوقت الذي يحتفل فيه المستبدون حول العالم، يشعر المدافعون عن الحرية بالرعب. فقد انضم ليخ فاونسا، بطل الديمقراطية البولندية الشهير، إلى مجموعة من السجناء السياسيين السابقين في رسالة موجهة إلى ترامب أعربوا فيها عن «الرعب والاشمئزاز» من طريقة معاملة الرئيس الأمريكي لنظيره الأوكراني، مؤكدين أن أجواء اللقاء أعادت إلى أذهانهم أساليب الاستجواب والترهيب التي مارستها المحاكم الشيوعية وأجهزة الأمن ضدهم.
أما قادة الديمقراطيات حول العالم، فقد رفعوا أصواتهم دفاعًا عن أوكرانيا. وكتب المستشار الألماني المرتقب فريدريش ميرتس: «يجب ألا نخلط أبدًا بين المعتدي والضحية في هذه الحرب الرهيبة». والآن، بات هؤلاء القادة في مواجهة التحدي الأكبر: كيف يمكن إعادة بناء ما دمره ترامب؟ وقد علقت نائبة رئيسة المفوضية الأوروبية، كايا كالاس، يوم تخلي ترامب عن أوكرانيا بقولها: «اليوم بات واضحا أن العالم الحر بحاجة إلى زعيم جديد».
وفي قاعة مجلس النواب ليلة الثلاثاء، لم تعد هناك أي إشارة إلى الولايات المتحدة التي كانت حتى وقت قريب تقود العالم الحر.
صفق الجمهوريون، الذين كانوا يومًا ما حزب التجارة الحرة، لتعهدات ترامب بفرض المزيد من الرسوم الجمركية على كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي والصين والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية. وقال ترامب: «لقد تعرضنا للسرقة من كل دولة تقريبًا على وجه الأرض، ولن نسمح بحدوث ذلك بعد الآن». وبشأن الأضرار التي ألحقتها سياساته التجارية بالفعل، قال باستخفاف: «سيكون هناك بعض الاضطراب، لكن لا بأس. لن يكون الأمر جللًا».
كرّر ترامب الحديث عن فوزه بالانتخابات، وعن «المجانين اليساريين الراديكاليين» الذين حاكموه، وعن معاركه الثقافية ضد الأمريكيين المتحولين جنسيًا وضد «التنوع والإنصاف والشمول». وبمزيج من السخرية والادعاءات العبثية، منها زعمه أن أكثر من مليون شخص فوق سن 150 عامًا يتقاضون الضمان الاجتماعي!، أثار استفزاز الديمقراطيين الذين رفعوا لافتات وارتدوا قمصانًا تحمل رسائل معارضة («كذب»، «لا ملوك هنا»). وعندما لوّح آل غرين، النائب الديمقراطي البالغ من العمر 77 عامًا عن تكساس، بعصاه وصاح موجهًا كلامه لترامب بأنه «لا يملك تفويضًا لخفض مخصصات ميديكيد»، تدخل قادة الجمهوريين الذين سمحوا لأعضاء حزبهم سابقًا بالصياح بعبارات نابية في وجه الرئيس جو بايدن، واستدعوا الحرس لإخراجه من القاعة.
استغرق الأمر نحو ساعة قبل أن يتطرق ترامب إلى موضوع التجارة، ولم يذكر أوكرانيا إلا بعد مرور ساعة وعشرين دقيقة من خطابه، حين زعم كذبا أن أوكرانيا استولت على 350 مليار دولار من الولايات المتحدة «وكأنهم يأخذون الحلوى من طفل»، بينما لم تنفق أوروبا سوى 100 مليار دولار على أوكرانيا، وهي أرقام مبالغ فيها بشدة بخصوص المساهمة الأمريكية، ومجحفة في تقليل الدور الأوروبي.
وفي لحظة تهكمية موجهة إلى الديمقراطيين، سأل ترامب: «هل تريدون الاستمرار لخمسة أعوام أخرى؟»، ثم أضاف ساخرًا مشيرًا إلى السيناتورة إليزابيث وارن: «بوكاهونتاس تقول نعم».
قهقه نائب الرئيس جي دي فانس، ورد الجمهوريون، الذين كانوا ذات يوم حماة النظام الدولي، بالتهليل والهتاف والتصفيق.
وهكذا، تنهار بنية الحرية والازدهار بكذبة، وسخرية، وضحكة عالية.
دانا ميلبانك هو كاتب رأي في صحيفة «واشنطن بوست». أحدث كتبه بعنوان «الحمقى في التل: المشاغبون والمخربون ونظريات المؤامرة والحمقى الذين أحرقوا المجلس»، من المقرر صدوره عن دار «ليتل، براون» في 24 سبتمبر.
0 تعليق