في لحظات التاريخ الفاصلة، تكون هناك قرارات حاسمة تعيد ترتيب المشهد، وتصحيح المسار، وتحمل في طياتها رسائل واضحة لمن يحاول القفز على الحقائق. وهذا تماماً ما حدث في «قمة فلسطين» التي انعقدت في القاهرة، حيث لم يكن الاجتماع العربي مجرد لقاء بروتوكولي، ولا كان «بيان القاهرة» مجرد ورقة مكررة من بيانات الإدانة والشجب التي ملّها العرب قبل غيرهم. بل كان إعلاناً جريئاً عن تحوّل جديد في الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية، أعاد رسم خارطة العمل العربي المشترك، وأكد أن هذه القضية، التي حاول البعض دفنها تحت ركام الحروب والأزمات، لاتزال القضية المركزية الأولى للأمة العربية.
منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قبل خمسة عشر شهراً، كانت المشاهد المروعة التي نقلتها الشاشات كفيلة بأن تهز الضمير العالمي، لكن الردود الدولية الرسمية كانت باهتة، والمواقف الغربية كانت انتقائية ومترددة. في المقابل، كان الموقف العربي يتحرك ببطء، حتى جاءت الدعوة المصرية لعقد قمة عربية طارئة، بتنسيق مباشر مع جلالة الملك المعظم، رئيس الدورة الحالية للقمة العربية، لتعيد ترتيب الأوراق، وتضع حداً لمشاهد الاستفراد بالشعب الفلسطيني.
لم يكن دور مملكة البحرين في هذه القمة رمزياً أو شكلياً، بل كان مؤثراً وحاسماً في صياغة الموقف العربي الموحد. فمنذ توليها رئاسة القمة العربية، وضعت القضية الفلسطينية في صدارة الأولويات، وسعت إلى إعادة الزخم الدبلوماسي لها في المحافل الدولية.
لم تكتفِ المنامة بالتصريحات، بل دفعت نحو تحركات سياسية مدروسة لتحويل الدعم العربي إلى خطوات عملية، وهو ما تجلى في مخرجات «قمة القاهرة» التي تجاوزت الإدانة إلى قرارات قابلة للتنفيذ. لعبت مملكة البحرين دوراً أساسياً في توحيد الموقف العربي ضد محاولات تهجير الفلسطينيين، ودعمت الجهود الدولية لإنشاء صندوق دولي لإعادة إعمار غزة، يضمن وصول المساعدات بعيداً عن أي ابتزاز سياسي. كما ساهمت في تعزيز الدعوة لنشر قوات حفظ سلام دولية في الأراضي الفلسطينية، لحماية الشعب الفلسطيني من الاعتداءات المتكررة.
عندما صدر «بيان القاهرة»، كان واضحاً أنه لا يشبه البيانات العربية السابقة. فقد خرج عن نمط الصياغات التقليدية، ووضع آليات واضحة للتحرك العربي، بعيداً عن لغة المناشدات والدعوات التي اعتاد عليها الفلسطينيون. كان بياناً جريئاً، لأنه وضع النقاط على الحروف، وأكد على أمور كانت تُقال في الغرف المغلقة فقط. أكد البيان أن الرفض العربي للتهجير القسري للفلسطينيين ليس مجرد موقف مبدئي، بل هو خط أحمر لن يُسمح بتجاوزه، محذراً من أن أي محاولة لإفراغ غزة من سكانها، أو إعادة رسم الخريطة السكانية في الضفة الغربية، سيُعتبر جريمة تطهير عرقي تستوجب المحاكمة الدولية.
لم يكتفِ البيان برفض العدوان الإسرائيلي، بل طالب بآليات دولية لوقفه، أبرزها نشر قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو طرح عربي جديد يتجاوز «المناشدات الدبلوماسية» المعتادة، ليضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته المباشرة.
كما تقدمت القمة بمبادرة غير مسبوقة لإنشاء صندوق دولي لإعادة إعمار غزة، يتولى جمع التعهدات المالية من الدول المانحة، حتى لا تظل إعادة الإعمار رهينة الابتزاز السياسي الذي تمارسه بعض القوى الدولية. هذه الخطوة، التي جاءت بدعم مباشر من البحرين، ومصر، والسعودية، تؤكد أن هناك إرادة عربية لإنهاء مأساة غزة.
أعادت القمة التأكيد على حل الدولتين، ولكن بروح جديدة، عبر الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو تحرك يحمل رسالة سياسية قوية بأن العرب لم يعودوا يقبلون أن تبقى فلسطين مجرد «ملف تفاوضي معلق»، بل واقع سياسي يجب أن يُفرض على المجتمع الدولي.
العرب اليوم أمام اختبار الإرادة السياسية، خاصة في ظل المتغيرات الدولية المتسارعة. فإذا أرادت الدول العربية أن يكون لهذا البيان أثر حقيقي، فعليها أن تبدأ فوراً بتنفيذ مخرجاته، وتحويل القرارات إلى خطوات عملية على الأرض. فالتحدي الأكبر ليس في صياغة البيانات، بل في القدرة على فرضها كأمر واقع لا يمكن تجاوزه.
وبفضل الجهود الحثيثة التي قادتها مملكة البحرين، تبدو الفرصة أكبر من أي وقت مضى لتحويل هذا البيان إلى واقع سياسي لا يمكن تجاوزه، وضمان أن تظل فلسطين في صدارة الأولويات العربية والدولية، حتى تحقيق العدالة الكاملة لشعبها.
0 تعليق