أهم فكرة يمكن أن تجنب البشرية المزيد من الدمار والإبادة والتناحر والتباغض تكمن في البحث عن المساحة المشتركة التي قد يتفق عليها الجميع، على اختلاف دياناتهم وأيديولوجياتهم وفلسفاتهم، وهي مساحة «الإنسانية» و«الأخلاق» التي تقرها والتي يتفق عليها الجميع. وعندما يتحاور الفرقاء أو حتى الأعداء المتصارعون في هذه المساحة يجدون الكثير من المشتركات وفجأة يصغي كل منهما إلى الآخر وكأن هذه المساحة برزت للتو من العدم.
كرس الصراع بين «الأديان»، والفلسفات، والنظريات الاقتصادية والاجتماعية الفجوة بين البشر، حتى باتت المسافات بينهم أكثر اتساعا، والجدران الفاصلة أعلى من أن تُخترق، وكانت هي المعيار في رسم تصورات كل مجتمع عن المجتمعات الأخرى، في وقت نسي فيه الجميع مبدأ الإنسانية الذي ظل ثابتا رغم الانقسامات والاختلافات عبر العصور الطويلة.
ومن يعد إلى التاريخ يجد أن دعوات الأمم والشعوب لم تخلُ من ترسيخ قيم التعاطف والرحمة والعدل والكرامة الإنسانية، وتتشارك الديانات السماوية في التأكيد على هذه القيم، فالإسلام ينادي بالتراحم والتكافل، والمسيحية تؤكد على المحبة والإحسان، واليهودية تضع المسؤولية الأخلاقية في مقدمة تعاليمها. وحتى الفلسفات الوضعية، سواء كانت مستمدة من الفكر الغربي كالأخلاق الكانطية أو من الحكمة الشرقية كالفكر الكونفوشيوسي والبوذي، تلتقي جميعها عند نقطة محورية وهي أن الإنسان قيمة عليا، وأن الأخلاق يجب أن تكون أساس التعامل بين البشر.
ولكن، إذا كانت الإنسانية تشكل هذا المؤتلف المشترك بين الجميع، فلماذا تفشل في أن تكون نقطة يجتمع حولها الجميع؟ لماذا يتم تجاهلها حين يتعلق الأمر بالمصالح الضيقة أو حسابات السياسة والاقتصاد؟
المعضلة الكبرى التي تواجه مبدأ الإنسانية ليست في هشاشته، بل في تهميشه المتعمد أمام صراع المصالح.. في معادلة السلطة والهيمنة، غالبا ما يتم التضحية بالقيم الأخلاقية لصالح صراع النفوذ سواء أكان نفوذا سياسيا أم اقتصاديا أم حتى دينيا، فتصبح الإنسانية شعارات جوفاء تُستخدم حين تتناسب مع المصالح، وتُطوى حين تكون عقبة في وجهها.
لقد رأينا كيف تم استغلال الدين ليكون غطاء للحروب والإبادات عبر التاريخ، وكيف تحولت الأيديولوجيات إلى أدوات للقمع والاستبداد، وكيف سُخرت الفلسفات السياسية لخدمة نخب محددة على حساب الشعوب المغلوب على أمرها، لقد تحول الإنسان خلال كل ذلك إلى وقود لكل هذه الصراعات وليس غاية لها!
لا يمكن أن نرهن فكرة التقاء البشر على قاعدة واحدة بانتظار أن تتفق الأديان أو الأيديولوجيات بشكل كامل، فذلك محض وهم كما تقول كل تجارب التاريخ، ولكن يمكن للبشرية أن تبدأ من أبسط ما يجمعها: إنسانيتها. وهذا يمكن أن يتحقق عندما يتفق الجميع على إعلاء قيمة الإنسان فوق كل الأيديولوجيات ويكون الإنسان، بغض النظر عن دينه أو عرقه أو أفكاره، هو الأولوية العليا وهو القيمة المقدسة، لا أن يكون ضحية لصراع المصالح الكبرى. لكن هذا يحتاج إلى عمل جاد على إعادة إحياء الأخلاق كأساس للتعاملات؛ فالسلام العالمي، على سبيل المثال، لا يمكن أن يُبنى دون قاعدة أخلاقية تحكم السلوك البشري، سواء على مستوى الأفراد أم الدول. كما أن العالم في أمس الحاجة إلى وجود خطاب عالمي يرتكز على القيم المشتركة، خطاب إنساني يتجاوز التقسيمات الضيقة ويركز على المبادئ التي لا يختلف عليها أحد مثل: الرحمة والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية.
وإذا لم تستطع الإنسانية أن تجد ما يجمعها فإنها ذاهبة نحو صراع أبدي لا منتصر فيه وستزيد مشاهد القتل والإبادة والتهجير وكسر الكرامة الإنسانية.. ذهابا إلى الفناء البشري إن لم يكن بالمعنى الحقيقي بالمعنى الرمزي المتمثل في نهاية التاريخ البشري وصمت إرادة التغيير لديه وتلاشي قيمه ومبادئه.
0 تعليق