مُحدِّدات التنويع الاقتصادي في دول الخليج .. عُمان نموذجًا

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. يوسف بن حمد البلوشي

لا صوت يعلو في الاقتصادات الخليجية فوق صوت «التنويع الاقتصادي»؛ باعتبارها القضية الأكثر إلحاحًا وضغطًا على دولٍ شهدت بالفعل طفرة اقتصادية وتنموية على مدى العقود الخمسة الماضية، ومع استمرار تقلُّبات أسعار النفط - المصدر الرئيس لإيرادات الميزانيات الخليجية - ازداد الحديث خلال العقدين الماضيين وتضاعفت الجهود الرامية لتنويع مصادر الدخل، من خلال تعزيز نمو القطاعات غير النفطية، والعمل على توسيع قاعدة القطاع الخاص. ووفق منصة التنويع الاقتصادي لدول الخليج المتخصصة في قياس التقدم المحرز في ملف التنويع الاقتصادي وفق منهجية علمية تستند على مؤشر مركب يضم خمسة مؤشرات هي نسبة مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي وفي الإيرادات العامة وفي إجمالي الصادرات بالإضافة إلى قدرة القطاعات غير النفطية على اجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر وكذلك مؤشر التعقيد الاقتصادي لكل دولة من دول الخليج. وتشير نتائج المؤشر المركب للتنويع الاقتصادي إلى أن دول الخليج حققت تقدما ملموسا في هذا الملف خلال السنوات العشر الأخيرة، وقد حققت دولة الإمارات العربية المتحدة المركز الأول في مسار التنويع الاقتصادي تليها المملكة العربية السعودية وبعدها مملكة البحرين وسلطنة عمان ومن ثم دولة قطر ودولة الكويت.

وعند دراسة وتحليل تحديات التنويع الاقتصادي في دول الخليج، وسلطنة عُمان تحديدًا، ينبغي النظر إليها من منظورين متكاملين؛ الأول: كيفية تهيئة القطاع الخاص لتعظيم إسهاماته في التنويع الاقتصادي، ومن ثم النمو الاقتصادي؛ باعتبار أن هذا القطاع هو مفتاح خزائن التنويع، وكلمة المرور التي من خلالها سَيَلِجُ اقتصادُنا الوطني نحو آفاقٍ أرحب من التنويع وزيادة الناتج المحلي الإجمالي، عبر نمو جميع القطاعات، وليس القطاع النفطي فقط.

أما المنظور الثاني؛ فيتمثل في مفهومنا للتنويع الاقتصادي، والذي نقصدُ به التنويع بمعناه الواسع، والذي يُشير إلى تنويع مصادر الدخل، بالتوازي مع تنويع الصادرات، وتنويع الوظائف المطروحة، وتنويع العلاقات الاستراتيجية، وتنويع القدرة على الابتكار؛ وهذه كلها أمور يملكها القطاع الخاص، بحكم خصائص تكريبته، من حيث هيكله التنظيمي المرن وتبادل الأدوار وحيوية العاملين فيه وتطلعهم لتحقيق الربح والنمو، علاوةً على قدرته على التوسع والازدهار.

وعلى غرار الاقتصادات الخليجية، حقق الاقتصاد العُماني نموًا مُتسارعًا خلال العقود الخمسة المُنصرمة، مدفوعًا بالإيرادات النفطية وحكمة إدارة الموارد المتاحة وتسخيرها لبناء مقومات الدولة العصرية.

ويُمكن رصد التطوُّرات الإيجابية التي شهدها الاقتصاد العُماني على مدى أكثر من 50 سنةً، من خلال التغيُّرات التي طَرأت على عددٍ من المؤشرات المحلية والدولية؛ مثل: إجمالي الناتج المحلي بالأسعار الجارية والأسعار الثابتة، ومتوسط نصيب دخل الفرد ومستوى معيشته، ونمو الاستثمار بمعدلات أتاحت المزيد من فرص العمل للمواطنين، وكذلك الاهتمام ببناء الإنسان العُماني وتعليمه؛ حيث تُظهر الإحصاءات أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في السلطنة حقق نموًا بنسبة 7% خلال الفترة (1970- 1995)، وبنسبة 3.6% خلال سنوات تنفيذ رؤية «عُمان 2020»، التي امتدت خلال الفترة (1996- 2020)، مع استثناء عامي جائحة كورونا. ثم نما الاقتصاد العُماني بنسبة 3.9% خلال السنوات الثلاث الأولى (2021- 2022- 2023) من تنفيذ «رؤية عُمان 2040».

وبتحليل نموذج التنمية في الحقبة المنصرمة، يتكشف لنا العديد من الجوانب المُضيئة من حيث: تطوير واستكمال البنية الأساسية من مطارات وطرق وبنية أساسية مرتبطة بالموانئ مثل صحار وصلالة والدقم، وكذلك إنشاء العديد من الصناعات البتروكيماوية، وإنشاء المناطق الاقتصادية والمناطق الحرة والمدن الصناعية، علاوة على إنشاء العديد من المشاريع السياحية المتكاملة، وقد انعكس ذلك أيضًا على التطورات الإيجابية التي طرأت على مدى تنوُّع الهيكل الاقتصادي، ونمو القطاعات غير النفطية، وتحقيق استقرار في الاقتصاد الكلي، بالتوازي مع رفع مستوى المعيشة، والحفاظ على الاستقرار النقدي وسعر صرف الريال العُماني. وتأكيدًا على هذه الإنجازات المُضيئة، صنَّفَت لجنة النمو والتنمية التابعة للبنك الدولي، سلطنة عُمان ضمن الثلاث عشرة دولة في العالم التي حققت نموًّا مُتواصلًا، وبأعلى المعدلات خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

لكن في المقابل، وفي الوقت نفسه، تسبب هذا النمو الاقتصادي -المعتمد بشكل مباشر على الإيرادات النفطية- في عددٍ من التحديات؛ فالاقتصاد العُماني يُعاني من ضِيق القاعدة الإنتاجية وتركيزها على النفط والغاز والصناعات المرتبطة بهما؛ وهو ما تُفصح عنه بيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات؛ حيث شكَّل النفط في عام 2023 ما نسبته 74% من إجمالي عوائد الصادرات، و72% من الإيرادات الحكومية، ونسبة 33% من الناتج المحلي الإجمالي. ولا تزال الحكومة تؤدي الدور الرئيسي في مجال إنتاج النفط. أضف إلى ذلك أن الاقتصاد يُعاني من حلقة مفقودة تربط النمو المتحقق في العقود الماضية، مع أي دورٍ فاعلٍ أو ملموس للقطاع الخاص. ولذلك يَتَّسِم الاقتصاد العُماني بالهشاشة وضيق القاعدة الإنتاجية؛ بسبب الاعتماد الكبير على استيراد السلع والخدمات والأيدي العاملة، كما أن الصناعات المحلية لا تزال تعتمد بشكل كبير على المبادرات الحكومية. وتسبب عدم وجود قطاع خاص ديناميكي في الحد من توفير فرص العمل، وضعف نمو المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ومحدودية نمو القطاعات غير النفطية.

خريطة نحو النجاح

ونستطيع أن نرصُد 3 مُحدِّدات رئيسية للنجاح المحدود في ملف التنويع الاقتصادي في دول الخليج ومن بينها سلطنة عُمان؛ وذلك على المستوى الكُلي؛ حيث يتعلق المُحدِّد الأول بآليات إدارة دورة الأنشطة التجارية المحلية وإعادة هيكلة الاقتصاد العُماني، الذي لا يزال مُعتمِدًا بشكل ملحوظ على الإنفاق الحكومي المُتحقَّق من تصدير النفط والغاز. علاوة على أن تلبية الطلب المحلي من السلع والخدمات، تأتي عبر الاعتماد على الاستيراد والأيدي العاملة الوافدة. أما المُحِّدد الثاني؛ فيَكمُن في إعادة توزيع الأدوار بين الفاعلين في تحقيق التنمية الاقتصادية، وهُم: الحكومة بمؤسساتها وكياناتها، والقطاع الخاص بشركاته ومؤسساته، والمجتمع العُماني بأفراده وأُسَرِهِ، وأخيرًا المتعاملون من العالم الخارجي.

ويتمثَّل المُحدِّد الثالث في ضرورة تكثيف الاستفادة من السياسات العامة المُختلفة، الاقتصادية والاجتماعية؛ بما يضمن إعادة توازن الدورة الاقتصادية والتي تحتاج إلى سياسات عامة مختلفة في سنوات الرواج والازدهار وارتفاع أسعار النفط، لتكون بديلة عن تلك السياسات العامة المطلوبة في سنوات الكساد والانحسار وتدني أسعار النفط والتعامل مع التحدي المالي والاقتصادي والإنتاجي وإيجاد فرص عمل. كما يجب تكثيف استخدام السياسات العامة لمعالجة تشوُّهات عناصر وعوامل الإنتاج الأربعة المعروفة، والتي لا تستقيم أية معادلة تنموية من دونها.

وهُنا نطرحُ عددًا من البرامج والتحوُّلات المُهمة لتعزيز التنويع الاقتصادي؛ منها أولًا: التحوُّل في دورة الأنشطة التجارية، والإجابة على سؤال: ماذا نُنتج وماذا نستورد وماذا نُصَدِّر، في ظل اعتماد دورة الأنشطة التجارية المحلية، على إيرادات النفط والغاز كمُوَلِّدات للدخل والطلب المحليين. وثانيًا: التحوُّل في إدارة الدورة الاقتصادية ووضع سياسات عامة مُتجدِّدة ومُتكاملة وشاملة؛ لإحداث التغيُّرات المنشودة في سنوات الرواج وسنوات الانحسار الاقتصادي (إذ نرى أن العملية التنموية تدار بعفويةٍ، وهناك حاجة ملحة لإدارة وقيادة اقتصادية تأخذ في الاعتبار مختلف المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وليس المالية فقط بحيث تستطيع أن تُدير وتُنَسِّق بحزمٍ السياسات العامة المختلفة، وتوجد درجة متقدمة من التنسيق والتكامل من الجهات وتجنب عمليات شَد وجذب غير مدروسة وذات تأثيرات واضحة على المسار التنموي). وثالثًا: التحوُّل في العلاقة والأدوار بين أفراد المجتمع ومؤسسات الأعمال والحكومة والمتعاملين من العالم الخارجي؛ حيث ما زالت الدولة تضطلع بالأدوار كافةً، في الإنتاج، والتمويل والاستثمار، وإذا كان هذا الدور مطلوبًا في المراحل الأولية لمسيرة التنمية، فإن المراحل الحالية والجاهزية التي وصلت إليها سلطنة عُمان، تفرضُ ضرورة تقاسم الأدوار والتكاليف بين جميع الأطراف ذات العلاقة.

وختامًا نقول.. إنَّ الطريق نحو تحقيق التنويع الاقتصادي يتطلبُ نهجًا مُتعدِّد الأوجه، يقوم أولًا على التركيز المستمر لتطوير القطاع الخاص؛ باعتباره المحرك الأساسي للنمو وخلق فرص العمل. وثانيًا: أهمية تسريع الاستثمار في رأس المال البشري وقُدرات الابتكار؛ بهدف دعم الأنشطة الاقتصادية القائمة على المعرفة. وثالثًا: ضرورة تعزيز الأُطُر التنظيمية بشكل أكبر، بما يساعد في جهود جذب الاستثمار المباشر الأجنبي وتسهيل نمو القطاع الخاص.

د. يوسف بن حمد البلوشي مؤسس البوابة الذكية للاستثمار والاستشارات

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق