في أحد أحياء محافظة المنستير شمال شرق تونس، حيث يعانق الفجر السماء بظلاله الهادئة، تخرج منيرة، أو "منورة" كما يلقبها جيرانها، ذات الـ62 عامًا، حاملة في يديها طبلة قديمة تجوب الشوارع مُعلنةً عن حلول موعد السحور.اضافة اعلان
ومنيرة من بين النساء القلائل اللاتي كسرن قاعدة المهن الرجالية، حيث امتهنت مهنة "البوطبيلة" التي ارتبطت في ذاكرة التونسيين بالرجال. حيث قررت منيرة أن تكون جزءًا من هذا التراث الرمضاني، فحملت الطبلة وبدأت في إيقاظ الجيران للسحور متحديةً بذلك المألوف.
الـ"بوطبيلة" أو المسحراتي، كما يُطلق عليه في العديد من الدول العربية، هو الشخص الذي يحمل طبلة وعصا صغيرة ويجوب الأحياء والشوارع لإيقاظ الناس للسحور خلال شهر رمضان، مرددًا عباراته الشهيرة: "قوموا تسحروا... قوموا تسحروا".
وتعد مهنة "البوطبيلة" من أقدم المهن في تونس، وهي جزء لا يتجزأ من التقاليد الرمضانية، ولكن هذه العادة بدأت تتلاشى وأصبحت مقتصرة على بعض المدن والقرى، لكن في حي منيرة، كان الحال مختلفًا، فهي إحدى القلائل اللاتي قرّرن أن يحملن طبلة المسحراتي في يديهن والحفاظ على هذا الموروث الثقافي.
امرأة تخالف المألوف
منيرة الكيلاني لم تتوقع يومًا أن تحمل طبلة والدها الراحل، الذي كان يُعدّ أحد أبرز "المسحراتية" في حيّهم، وتكمل مسيرته بعد وفاته منذ خمس سنوات. تقول منيرة في حديثها لـ"سبوتنيك": "كنت أستمتع وأنا صغيرة بصوت إيقاع طبلة والدي وهو يوقظ الجيران للسحور. كان الصوت يملأ الحي، وكأنّه يحمل الأمل في كل ضربة و اليوم، أريد أن يبقى هذا الصوت حاضراً، لا أريد له أن يختفي مع الزمن."
وتضيف الكيلاني التي تشتغل في العادة في جمع القوارير البلاستيكية وبقايا الخبز من أمام منازل المستاكنين لتقوم ببيعه لاحقا أنها حاولت أن تجد في مهنة بوطبيلة بعض ما يسدّ حاجيات عائلتها ووالدتها الملازمة للفراش فتقول "بدأت بالخروج للعمل كـ"بوطبيلة" منذ سنة 2019 فأصبحت هذه المهنة مورد رزقي الذي أساعد به عائلتي طيلة شهر الصيام".
وتحظى منيرة بالتشجيع الدائم من سكان حارتها وتضيف: "لقد صار المتساكنون يعرفونني جيدًا، كلما مررت عليهم ليلاً، يبادلونني التحية. وفي اليوم الذي لا أوقظهم فيه للسحور، يأتي أغلبهم ليطمئنوا عليّ، وقد شعروا بفقدان هذه العادة."
لم يكن سهلاً أن تخرج منيرة في ساعات الليل حاملة الطبلة، متحدية العادات والتقاليد التي جعلت من هذه المهنة شأنًا خاصًا بالرجال. لكنها، ورغم التحديات التي واجهتها، استطاعت أن تفرض نفسها كأول امرأة في حيها تؤدي هذا الدور.
تقول: "كل يوم أخرج على الساعة الثالثة فجرا وأنا أحمل الطبلة دون خوف لأنني وسط أهلي وجيراني وأنا أردد "يا نايم وحّد الدايم..يا غافي وحد الله جاء رمضان يزوركم".
جزء من الهوية
منيرة ترى أن مهنة البوطبيلة تمثل جزءًا من هويتنا الثقافية التي يجب الحفاظ عليها، فحتى وإن كانت المكافآت المالية لهذه المهنة ضئيلة، إلا أن قيمة ما تقدمه من سعادة لأسرتها ولأهل الحي لا تُقدر بثمن.
تقول منيرة: "هذه المهنة لا تدر عليّ سوى القليل من المال، الذي يمنحني إياه الجيران بمناسبة عيد الفطر. ورغم ذلك، أنا متمسكة بها لأنها تمثل جزءًا من هويتنا الثقافية، جزءًا من تقاليدنا التي يجب أن تبقى حية".
ويشير أستاذ التاريخ المعاصر عبد الواحد المكني في حديثه لـ"سبوتنيك" إلى أن مهنة البوطبيلة هي مهنة قديمة، يطلق عليها في بعض المناطق "طبال رمضان" أو "السحار"، حيث يُعنى الشخص الذي يؤدي هذه المهمة بإيقاظ الناس للسحور طوال شهر رمضان.
ويضيف المكني أنه "في الماضي، ومع قدوم رمضان في فصل الشتاء، كان الناس ينامون مبكرًا بسبب العمل الشاق في الأرض أو الحرف المختلفة، ومع غياب وسائل التواصل الحديثة، كانوا يعتمدون على البوطبيلة لإيقاظهم للسحور. من هنا أصبحت هذه المهنة تحظى بمكانة كبيرة في المجتمع، إذ تمثل رمزًا ثقافيًا وتجدد كل عام مع بداية شهر رمضان".
ويُشير المكني إلى أن "البوطبيلة" تحمل أهمية خاصة في تونس، خاصةً بالنظر إلى قدرة ممتهنيها على التواصل مع السكان باستخدام عبارات محلية مألوفة. ويعتبر أن من يمتهن هذه المهنة يجب أن يكون على دراية بحيّز المنازل وأسماء الجيران حتى يتمكن من مناداة الناس بشكل دقيق، حيث لا يترك المكان حتى يتأكد من استيقاظ الجميع.
ويختتم أستاذ التاريخ بأن البوطبيلة عادة ما يحصل على مكافأة يوم العيد من السكان، التي تكون غالبًا في شكل نقود أو حلويات أو طعام جاهز. هذه المكافآت تحفز "البوطبيلة" على الاستمرار في عمله بكل حماسة، وتجعل رمضان القادم يبدو أكثر إشراقًا.
مهنة تواجه الاندثار
ومع التطور المتسارع في الحياة اليومية وتقدم وسائل التواصل والتكنولوجيا، بدأت مهنة البوطبيلة تتراجع في العديد من المدن التونسية. صوت الطبلة أصبح نادرًا في الأحياء، وتقلصت هذه العادة ليقتصر ممارستها على مدن وقرى بعينها كمحافظة القيروان (الوسط التونسي) التي ما يزال أهاليها متمسكين بهذه العادة ويحاولون الحفاظ عليها من الاندثار. أما في باقي المدن، فقد أصبحت هذه العادة جزءًا من الماضي، وهو ما يدفع العديد من المهتمين بالتراث الثقافي إلى الدعوة للحفاظ عليها.
وفي هذا الصدد، يعبّر أستاذ التاريخ المعاصر عبد الواحد المكني عن ضرورة الحفاظ على هذه المهنة كموروث ثقافي، ويؤكد: "يجب أن تُعتبر مهنة البوطبيلة جزءًا من تراثنا التونسي الذي يجب أن يُنقل للأجيال القادمة. إنها ليست مجرد مهنة، بل جزء من ذاكرة مجتمعنا الرمضانية".
ودعا المؤرخ عبد الواحد المكني وزارة الشؤون الثقافية وجمعيات صيانة المدينة إلى إيلاء اهتمام أكبر بهذا الموروث الثقافي الفريد، والعمل على الحفاظ عليه وحمايته من الاندثار. وأكد على ضرورة أن يكون لهذا التراث، الذي لا يزال ينبض في شوارع تونس، مكانة مرموقة في الذاكرة الجمعية للمجتمع التونسي.
وقال: "هنالك العديد من المظاهر التي تمثل المشهد الفرجوي التقليدي مثل 'السطمبالي' و'بوسعدية'، وهي عناصر لا يجب أن تُترك لتذوب في غياهب الزمن، لأنها تشكل جزءًا لا يتجزأ من تراثنا الثقافي الذي يعكس هوية بلادنا".
وأردف محدثنا قائلاً: "إن هذه المهن والطقوس الرمضانية تعتبر جسرًا يربط بين الأجيال، ويحفظ في طياته قصصًا من الزمن الجميل التي يجب أن تنتقل كما هي إلى الأجيال القادمة."
ويختتم المكني بالإشارة إلى أن أول "مسحراتي" في التاريخ الإسلامي كان بلال بن رباح، مؤذن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان يطوف في شوارع المدينة المنورة ليوقظ الناس للسحور بصوته العذب، مما يجعل من هذه المهنة جزءًا من تاريخ طويل يمتد عبر العصور. (سبوتنيك)
اقرأ أيضاً:
مسحراتي يستخدم البوق لإيقاظ الصائمين في تركيا (فيديو)
"غصبا عن نتنياهو".. مسحراتي غزة يعيد بهجة رمضان لخان يونس
0 تعليق