لكـلّ سرديّـةٍ زمـنٌ تُـعْـرَف بـه ويتـحدَّد سياقُـها بـه، وقـد يُـعْـرَف هـو بها في جانـبٍ منه محدود. يصْـدُق ذلك حتّى على السّرديّـات غير التّـاريخيّـة، أي التي لا تروي تاريخاً ومـجالاً وقـائعـيّاً مباشراً مثـل السّرديّـات الدّيـنيّـة والفـكريّة. الزّمن، بهـذا المعنى، ملازِم لفعـل السّرد وللبناء السّرديّ لا يبارحه؛ وهـو - لذلك السّبب - قـابلٌ للإدراك المباشر، إنْ كان السّرد يُـفـصح عنه ولا يُضْمِره، أو هـو قابـلٌ للتبيُّـن بالتّحليل إنْ كان السّرد يُـبطِنه ويحْجُـبُه عن المعرفة المباشرة. التّلازمُ بينهـما مردودٌ إلى أنّ فِعْـل القول - الذي يأخذ شكل سرد - يقـع في زمنٍ بعينه ويَحمل بالتّالي، سمات ذلك الزّمن بَـلْ تَـنْحَـدُّ معطياتُ ذلك القول بالمتاحات الماديّـة واللاّماديّـة في ذلك الزّمن. إنّـه (الزّمن) شرطٌ موضوعيّ لفعل السّرد يمتـنع غـيابُه (وإنْ كان يمكن تغـيـيـبُه في السّرد) حتّى وإنْ ركِـبَ السّردُ مرْكب التّخيـيـل المنـفـلت من قـيود المكان والزّمان والواقـع الموضوعيّ.
على أنّ الزّمـن في السّـرديّـات ليس واحـدَ الهـيئـة والبُـعـد ولا مجـرَّداً ولا افـتـراضيّـاً، بـل هـو متعـدّد الأبعـاد؛ متـجـسِّـدٌ وواقعـيّ بـقـطع النّظر عمّا قـد يكـون فيه مـن مباشـريّـة أو لا يكـون.
وهـو، بالأحرى، أزمـنـة لا زمـنٌ واحد؛ وهـذا يُـفْـهَـم بمعـنيـيْـن: بمعنـى أنّـه يطابـق الأبـعاد الثّـلاثـة للزّمـن ويعـبّـر عنها في تواليـها أو تَـزامُـنـها: الماضي، الحاضر، المستـقـبل ويؤطّـر حـوادث كلّ سرديّـة أو معطياتها بواحدٍ أو أكـثـر من هذه الأبعاد؛ ثمّ بمعنى أنّه ينـقسم في السّرديّـات إلى زمنـيْن متمايزيْـن: زمـنٌ موضوعيّ، هو الزّمـن المشار إليه بوصفه متحرّكاً ضمن أبعادٍ ثلاثة أو لحظات ثلاث، وزمـن ذاتـيّ محايِث لكـلّ سرديّـة وقد لا يكون مطابقاً للزّمـن الموضوعيّ الذي تقع فيه.
إنّ زمـن الحوادث مثـلاً غيـرُ زمـنِ روايتها. هـذه حـقـيقة مُـبْـتَـدَهـة، ولكن هل يـقِـلّ عنها بـداهـةً أنّ زمن السّرديّـات الذّاتيّ أحـياناً ما يكون زمناً اصطناعيّـاً؛ يصطنعه السّارد/السّاردون أو مَـن يـؤلّف/يـؤلّفون السّرديّـات نظراً إلى استحالة نشوء بنًى سرديّـة مجـرَّدة من الزّمنـيّـة. في كلّ حال، لا سبيل لقارئ السّرديّـات إلى فهم أنظمة القول فيها من غير الانتباه إلى أزمنتها التي تـقولُها (تلك السّرديّات) وتـتحرّك فيها؛ إنّ الزّمنـيَّ ليس من إكسسـوارات السّرديّـة، بل هو ممّا تـقـوم به وتكون وتؤدّي الوظيفة المرصودة لها.
سنمـيّـز، في ما سيـلي، بيـن نوعـيْـن من أزمنـة السّـرديّـات: بيـن أزمنـةٍ ترويـها تلك السّـرديّـات، وأزمـنـة أخرى تُـروَى فيـها تلك السّـرديّـات، محاوليـن بيـان الوضـع الخاصّ لِـكـلٍّ من ذيـنِـك النّـوعـيـن من الأزمنـة.
ينـصـرف قسـمٌ كبـيـر من السّـرديّـات إلى روايـة أخبـارٍ عـن حـوادثَ ووقائـع وقـعت في الزّمـن الماضي أو تـقـع في الحاضـر. إنّـها، بهـذه الصّـورة التي تُـقـدِّم بـها نـفسَـها، سـرديّـاتٌ تـدور على أزمنـةٍ بعيـنـها وعلى ما يـقـع فيها من حـوادث وما ينـشـأ مـن ظـواهـر، والزّمـن فيها ليس محـض وعـاءٍ تُـصَـبّ فيـه تلك، أو مجـرّد سـياقٍ تجـري فيـه بـل عـامـلٌ محـدِّدٌ لـها ومـقـرِّر في كيـفـيّـة كـوْنـها وتطـوُّرِها وصيـرورتها.
إلى ذلك ليس مـن سبيلٍ لـدى متـلـقّي هـذا النّـوع من السّرديّـات التي تروي أزمـنـتَـها إلى فهـم معطياتـها من غيـر أن يَـقْـرِن بينها وشرطـيّـتِـها الزّمـنـيّـة التي وقعت فيها؛ إذ هي وحدها تُـلـقي عليها ضـوءَ التّـجليـة وتَـفُـكّ مُـبْـهَـمَـها أو سؤالَـها. ومعنى هـذا أنّ لـهذه الزّمـنـيّـة - وهي تكـويـنـيّـة في السّرديّـة - قـدرةً تـفسـيـريّـة تسمح ببـيان كنـه السّـرديّـة ومضمونِـها، وذلك لسببٍ معـلوم هـو أنّ الزّمـنـيّـة جـزء من بـنـيـة التّـكـويـن السّرديّـة وهي، بالتّالي، أَسْـمـنـتُ بـنائـها كسـرديّـةٍ ومفـتـاحُ قُـفْـلـها في آن. تـنـتمي السّـرديّـات التّـاريـخـيّـة، التي نعـثـر عليها في تـدويـنـات الأَخـباريّـيـن وكـتّـاب السّـيرة والمغـازي والطّـبـقات وكـتابات المؤرّخـيـن...، إلى هـذا النّـوع من السّـرديّـات التي تـروي أزمـنـتَـها إذْ تـروي أخبـاراً عـن الحـوادث والواقعـات.
نحـن نجـد نظـائـرَ لهـذه السّـرديّـات التّـاريـخيّـة في سـرديّـاتٍ أخـرى مـدارُهـا على زمـنٍ حاضـرٍ سائـلٍ سيولةً مدفوقة من قـبيـل ما تَـسْـرُده الصِّـحـافـة ووسائـل الإعـلام الأخـرى: المكـتوبة والمسموعة والمرئـيّـة من أخبارٍ عـن حوادثَ وقـعت وتـقع، الأمر الذي تُصبح معه مادّتُها الخَبريّـة في حُكم الوثيقة التّاريخيّة التي يُرجَع عليها: بـقـطع النّـظر عن مـدى عـلميّـة طرائـق التّـوثـيق فيهـا.
على أنّ السّـرديّـات التي تـروي أزمـنـةً هـي نفـسُـها تـرويـهـا أزمـنـتُـها. هـذا يُـقال على جـهـتـيـن: وقـفْـنا على الجهـة الأولى أعـلاه حين شـدّدنا على السّـمـة التّـفسـيريّـة التي ينـطـوي عليها عـامـلُ الزّمـنـيِّ في كـلّ سـرديّـةٍ روايـةٍ للزّمـن (تـاريـخيّـة)، أمّـا عـلى الجـهـة الثّـانيـة - وهـي الأهـمّ- فيـقال ذلك عـن نـوعٍ آخـر من السّـرديّـات يكـاد أن يـبـدُوَ خـالـياً، تـمـامـاً أو إلى حـدٍّ بعـيد، من أيّ بـعـدٍ زمـنـيّ يـؤطّـر معـطيـاتـه. هـذا، مـثـلاً، مـا هـو عليـه أمْـرُ السّـرديّـات الدّيـنيّـة التّـفـسيريّـة أو الدّائـرة على تـعالـيـم الدّيـن وعلى تـاريـخ الجماعة الدّيـنـيّـة؛ وهـو عيـنُـه ما يـنـطـبـق على السّرديّـات الفكـريّـة والثّـقـافـيّـة والعـلمـيّـة، بـمـا هـي جمـيـعـها سـرديّـات لا تـدور على زمـنٍ بـعيـنـه ويـكـاد أن يـخـتـفـيَ في تضـاعيـف مادّتـها ما يشـير، مباشـرةً، إلى الزّمـن المتعيِّـن. مع ذلك، مَـن يملك مـنّـا أن يـتـجـاهـل حـقيـقـةَ أنّ لمـعطـيـات هـذه السّرديّـات زمـنـاً خـاصّـاً بـهـا ليس، دائـمـاً، مفـارقـاً للزّمـن الموضوعيّ وليس، دائـماً، مطـابـقـاً.
إنّ زمـنـيّـة الفـكـر، بـما في ذلك الفـكـر الدّيـنـيّ، تخـضـع لنـظامٍ مـن التّـطـوّر خـاصٍّ ومسـتـقـلّ، نسـبـيّـاً، عن مجـرى التّـطـوّر المـوضوعيّ. لذلك يمكن الحـكـم على معـطـى هـذه السّـرديّـات بمـعـيار زمـن الفكـرة التي تحـمـلها لا بـمـعيـار الزّمـن الموضوعيّ الذي تجـري فـيـه؛ أي ما سـمّـيـنـاهُ في كـتـابـات سابـقـة بـ الـزّمـن المـعـرفـيّ.
بـهـذا المعـنـى فـإنّ زمـنَ المـعرفـة الدّيـنـيّـة هـو الذي يـروي السّـرديّـات التّـفـسيريّـة وتـاريـخيّـات الدّيـن أكـثـر مـمّا يـفـعـل الزّمـن التّـاريـخيّ الموضوعـيّ؛ وزمـن المعـرفـة الفـلسفـيّـة والمعرفة العلميّـة هو الذي يـروي سرديّـاتهـما ويـفـسّـرها انطـلاقـاً مـن ممـكـناتـه ومـوارده الإيـبـيـستـيـميّـة المتاحـة، ومـن الأفـق الذّهـنيّ المتـاح أمـام المعـرفـة.
0 تعليق