أكَّد فضيلة الدكتور نظير عياد -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم- أن الوفاء بالعهد يعد إحدى القيم الأخلاقية والدينية الكبرى التي يجب أن يتحلى بها المسلم، محذرًا من خطورة الإخلال بالوعد والغدر بالعهد، حيث وضعها الشرع الشريف في مصاف صفات المنافقين التي تهدم الثقة بين الناس، وتؤدي إلى فساد المجتمعات وانتكاس الفطرة.
وشدد فضيلته -في حديثه الرمضاني اليومي في برنامج «اسأل المفتي»- على أن الوفاء بالوعد ليس مسألة هينة أو يسيرة، بل هي علامة فارقة بين المؤمن والمنافق، مستشهدًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها»، ومنها: "إذا وعد أخلف"، وكذلك حديثه عليه الصلاة والسلام: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".
وأكد أن هذه النصوص تبين بوضوح أن عدم الالتزام بالوعد هو علامة من علامات النفاق، وهو ما يجعل الإنسان في موضع خطر ديني وأخلاقي، حيث إن الله سبحانه وتعالى خاطب عباده في القرآن الكريم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، مشيرًا إلى أن هذا النداء موجَّه للمؤمنين تحديدًا، ولم يقل الله "يا أيها الناس" أو "يا أيها المسلمون"، مما يدل على أن الوفاء بالعهد من صميم الإيمان الحقيقي.
وأوضح فضيلته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغدر يومًا قط، وكان أوفى الناس بالعهد، مستشهدًا بموقفه في صلح الحديبية عندما جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى النبي فارًّا بدينه بعد معاناة شديدة، ومع ذلك أعاده النبي صلى الله عليه وسلم إلى كفار مكة احترامًا للعهد الذي قطعه معهم، قائلًا له: "إنا لا نغدر، وإن الله ناصرك"، رغم أن الرجل كان قد تعرض لأشد أنواع العذاب في سبيل دينه.
وأكد مفتي الجمهورية أن الوفاء بالعهد يرتبط بجوانب متعددة في حياة الإنسان، فهو يشمل العلاقة بين العبد وربه، وبين العبد ونفسه، وبين العبد وبني جنسه، مبينًا أن الوفاء بالعهد مع الله يعني الالتزام بأوامره، واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده، واتباع تعاليمه، بينما الوفاء بالعهد مع النفس يتمثل في وضعها في إطارها الصحيح، وضبطها، وإبعادها عن الرذائل والمعاصي، والوفاء بالعهد مع الناس يكون عبر التزام الحقوق، وأداء الأمانات، والصدق في المعاملات.
وأشار فضيلته إلى أن تزكية النفس هي السبيل الأساسي لتحصيل الوفاء بالعهد، موضحًا أن الإنسان لا بد أن يكون على دراية تامة بحاله، ويحاسب نفسه باستمرار، كما يفعل التجار في تجارتهم، حيث ينبغي أن يخصص المرء وقتًا لمراجعة أعماله يوميًّا، فإن وجد خيرًا حمد الله، وإن وجد تقصيرًا سارع إلى التوبة والاستغفار، مؤكدًا أن هذا الأمر هو الذي يرقى بالإنسان من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة، ومن النفس اللوامة إلى النفس المطمئنة.
وأضاف فضيلته أن تزكية النفس تتحقق من خلال عبادات قلبية، مثل: اليقين، والخوف من الله، والتفكر، والإيثار، والمحبة، والمراقبة، لافتًا النظر إلى أن هذه العبادات يظهر أثرها في سلوك الإنسان وتعاملاته مع الناس، مؤكدًا أن الصحبة الصالحة لها دور أساسي في تحقيق تزكية النفس، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"، وكذلك حديثه الشريف: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيك وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثوبك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة".
وأوضح فضيلة المفتي أن العلاقة بين العبد وربه تشبه سلمًا روحيًّا تصعد فيه النفس من مقام إلى آخر، مشيرًا إلى أن التصوف الإسلامي أسَّس منهجًا راسخًا في تزكية النفوس عبر مقامات وأحوال تبدأ بالتوبة والصبر والمراقبة والمحاسبة، بهدف الارتقاء بالنفس من كونها أمَّارة بالسوء إلى أن تصبح مطمئنة. وأضاف أن هذا التحول لا يتم دفعة واحدة، وإنما يتحقق من خلال مراحل متدرجة في السلوك الروحي.
ولفت فضيلته الانتباه إلى أنَّ معرفة الإنسان لنفسه هي الخطوة الأولى في رحلة الإصلاح، مشيرًا إلى أن الفيلسوف اليوناني سقراط حين دخل أحد المعابد وجد عبارة مكتوبة تقول: "اعرف نفسك بنفسك"، وهو ما يعكس أهمية الوعي الذاتي والتأمل الداخلي، لأن الإنسان أكثر الناس دراية بعيوبه وأخطائه، وهو الوحيد القادر على إدراك حقيقة نفسه والعمل على تقويمها.
وأشار فضيلة المفتي إلى أن القلب هو مركز التوجيه في الإنسان، فهو الذي يقوده نحو الخير أو الشر، مستشهدًا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله"، موضحًا أن العلماء شبَّهوا القلب بالملك، بينما الجوارح والبدن هم الجنود، فإن صلح الملك استقام الجنود، وإن فسد فسدوا معه. كما أورد الأثر القائل: "ما من يوم إلا وتنادي الأعضاء على القلب: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن كنت صالحًا كنا كذلك، وإن كنت على خلاف ذلك كنا في خزي وهلاك".
وشدد فضيلته على أن الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل ينبغي أن يصوم الإنسان عن كل ما يغضب الله، مستشهدًا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، موضحًا أن المسلم الذي يبتعد عن الغيبة والنميمة، ويحكم لسانه وسلوكه، هو المهاجر إلى الله بحق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟"
وتطرق فضيلة المفتي إلى قضية النية في الصيام، مؤكدًا أنه يكفي نية واحدة لصيام شهر رمضان في بداية الشهر، إلا أنه من الأكمل أن يجدد المسلم نيته كل ليلة خروجًا من الخلاف الفقهي، إلا أن الأهم هو أن تكون النية دائمة وعميقة، لا تقتصر على الامتناع عن المفطرات، بل تشمل صيام "خواص الخواص"، وهو الامتناع عن المعاصي والذنوب، لتحقيق التقوى التي تمثل الغاية الكبرى من الصيام.
وختم فضيلته حديثه مؤكدًا أن الإنسان مسؤول عن أفعاله أمام الله، وأنه لن يحقق السعادة والراحة النفسية إلا إذا زكى نفسه وطهرها من العيوب، مستشهدًا بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}، مبينًا أن هذه التزكية لا تأتي من فراغ، بل تحتاج إلى عمل مستمر، ومجاهدة للنفس، وابتعاد عن المعاصي، وحرص دائم على الوفاء بالعهود والعقود، لأن الوفاء هو عنوان الإيمان، والإخلال به من علامات النفاق التي تهوي بالإنسان إلى دركات الهلاك.
0 تعليق