loading ad...
عبر التاريخ، ظل الدين عنصرًا أساسيًا في تشكيل الوعي الجمعي للمجتمعات الإسلامية، حيث كان يُنظر إليه كمنظومة قيمية وتشريعية تهدف إلى بناء الإنسان والمجتمع وفق مبادئ العدل والرحمة والتزكية، إلا أن الحركات الإسلامية المعاصرة، التي نشأت في سياقات سياسية مضطربة، أعادت تشكيل الدين ليصبح مشروعًا سياسيًا أكثر منه رسالة إصلاحية، هذه الهيمنة السياسية على الدين لم تؤد فقط إلى تغييب جوهر الإسلام الروحي والتربوي، بل أفضت أيضًا إلى تشويه المفاهيم الأساسية التي كان يفترض بها أن تكون مصدر إلهام ونهضة.اضافة اعلان
فلم يكن أخطر ما فعلته الحركات الإسلامية هو مجرد تسييس الدين، بل إعادة تعريفه بما يخدم مشروعها الخاص، حيث أصبح الإيمان مرتبطًا بمواقف سياسية، وأصبح «الولاء والبراء» ميزاناً للحكم على الآخرين بناءً على مدى قربهم من المشروع السياسي لهذه الحركات، وليس بناءً على التزامهم بالقيم والتشريعات الحقيقية للإسلام.
ولم تعد الدعوة تهدف إلى بناء الفرد الواعي الذي ينطلق من فهم عميق ومتزن للدين، بل تحولت إلى أداة لحشد الأتباع، وتصفية حسابات سياسية لا تنتهي، وتحول الإسلام، من رسالة أخلاقية إلى برنامج سياسي يُفاوض عليه، ومن منهج تربية وبناء وعلم إلى أداة تعبئة وحشد، وتحول من كونه وسيلة لتحرير الإنسان من أهوائه، إلى أداة تُستخدم للسيطرة على الأفراد وتوجيههم نحو أهدافهم الخاصة.
قادة سياسيون أم علماء مصلحون؟
وفي الوقت الذي كانت فيه الأمة تعتمد على القادة الربانيين والعلماء المصلحين في تشكيل الوعي الديني، أفرَغت هذه الحركات الساحة من هؤلاء، واستبدلتهم بقيادات سياسية تفتقر إلى العمق العلمي والتربوي، وهكذا تحول الخطاب الإسلامي من خطاب علمي وإصلاحي إلى خطاب تعبوي تحريضي، يعتمد على دغدغة العواطف وإثارة الحماسة بدلاً من تقديم الفكر الرصين والبدائل الواقعية.
وفي هذا الإطار، لم تعد المذاهب الإسلامية تُرى كإرث فقهي تأصيلي غني يُثري الاجتهاد، بل صُوِّرت كأدوات تفرقة يجب تجاوزها، فهم يريدون فهما زئبقياً عن الإسلام يتماهى مع توجهاتهم السياسية، وأنشطتهم الحركية.
على مدار التاريخ، لم يكن الدين بحاجة إلى «قادة سياسيين»، بالقدر الذي يحتاج فيه إلى مصلحين وعلماء يربّون الناس ويهذبون سلوكهم، لكن هذه الحركات التي نشأت في قلب الصراع السياسي، لم تترك مساحة لهذا النموذج، حتى فقد الدين جوهره العلمي والتربوي، فلم تعد المساجد منارات للعلم، بل ساحات للتنازع والتحريض والتجنيد، وأصبح المقياس ليس في التقوى والورع والعلم، بل في القدرة على استقطاب الأتباع، وتحريك الجماهير، وإدارة الصراعات.
الحركات الإسلامية وإشكالية الدولة الوطنية:
ولأن هذه الحركات تتبنى مشروعاً تنظيمياً عالمياً، ولا يتحقق ذلك إلا بالهيمنة على الدولة الوطنية الحديثة، معتبرة أن الدولة بمفهومها الحديث تشكل عائقاً أمام تحقيق هذا المشروع، وهذا ما جعلها تدخل في صراع دائم مع الأنظمة الحاكمة، ليس من منطلق الإصلاح، بل من منطلق الاستحواذ، ولم يكن هذا الصراع مجرد خلاف سياسي، بل اتخذ طابعًا دينيًا، حيث أصبح أي حاكم لا يتبنى مشروعها متهمًا بـ»محاربة الإسلام»، وأصبح أي نظام لا يخضع لها نظامًا «جاهلياً» يجب تغييره.
والنتيجة؟ استعداء الحكام، وتأزيم العلاقة بين الشعوب والحكومات، وتعميق الفجوة بين أهل السياسة والمجتمع، مما أدى إلى تقويض مفهوم المواطنة، فبدلًا من أن يكون الدين إطاراً جامعًا يوحد أبناء الوطن الواحد، أصبح أداة لخلق انقسامات جديدة داخل المجتمع.
لقد وقعت الحركات الإسلامية في خطأ جوهري عندما تعاملت مع الإسلام كمشروع سياسي محض، وليس كرسالة حضارية أخلاقية سامية، فالإسلام دين الإصلاح، ولكنه لا يحتاج إلى تنظيمات تُسيّره، بل يحتاج إلى عقول تحمله بوعي، وقلوب تُجسّده بأخلاق، ولم يكن يوماً منحصراً في توجه سياسي، ولم يكن مشروعًا مرحليًا لتحقيق السلطة، بل كان وما يزال طريقًا لبناء الإنسان وإصلاح المجتمع.
وما لم تُراجع هذه الحركات نفسها، فإنها لن تقود إلا إلى مزيد من الانقسام، ومزيد من الابتعاد عن جوهر الدين الذي جاء رحمة للعالمين.
0 تعليق