المنظمات الفيروزية؛ نحو وعي جديد للمنظمات التعليمية

صحيفة مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
لا يمكنك أن تغير الأمور بمحاربة الواقع الموجود. لتغيير شيء ما، فأنت تحتاج إلى بناء نموذج جديد، يحيل النموذج القديم إلى نموذج بالٍ. "ريتشارد فولر".

تنطلق فكرة هذا المقال من افتراض مفاده أنه يمكن لمجموعة من الموظفين المؤهلين في جوانب تخصصيه معينة أن يحققوا نتائج عمل غير مسبوقة للمنظمة إذا عملوا دون تراتبية تنظيمية أو هياكل إشرافية أو طرق عمل مقننة. هذا الافتراض يعد في منظماتنا المعاصرة سلوكا وظيفيا يحدث الفوضى ويقود لفقد السيطرة وانعدام الحوكمة الإدارية، وقد يستوجب العقاب. ومع ذلك دعنا نرى ما يقوله فريدريك لالو الخبير في استكشاف الطرق الجديدة التنظيمية وملخص أبحاثه في كتابه المميز (إعادة اختراع المنظمات). وقد تبنى الكاتب في طرحه إطارا نظريا مستقى من نظرية هامة في التطور الإنساني اسمها النظرية التكاملية Integral Theory، والتي تركز على منظومات القيم للفرد والمجموعات البشرية ومستويات وعي كل منهما. حيث سلط الضوء على المنظمات التي استطاعت ارتقاء مستويات من الوعي المهني مكنها من حل مشاكل مركبة التعقيد معتمدة على الإدارة الذاتية الشبكية العابرة للتراتبية الهرمية، التي تتكدس فيها السلطة في الأعلى. وانتهى من خلال النموذج الإداري الحديث (الهولاقراطية) Holacracy إلى نموذج يعتمد كليا على الفرق ذاتية التنظيم والأدوار، والتي تشكل أعلى مستويات الوعي التنظيمي وفق مفهوم (الكل المتكامل) من وجهة نظره وأطلق عليها مسمى (المنظمات الفيروزية).

تعد المنظمات الفيروزية هي المرحلة القادمة من الوعي التنظيمي وهي محصلة لمراحل سبقتها بدءا من المنظمة (تحت الحمراء) وهي مرحلة الإنسان البدائي الذي كان يعيش في مجموعات صغيرة تتطلب نوعا من القيادة الفطرية البسيطة. ثم تلتها مرحلة (المنظمة الحمراء البسيطة)، وهي مرحلة تلت ذلك، ووجدت فيها القبائل الكبيرة نفسها مضطرة لعقد تنظيمات لقيادة المجموعات الكبيرة طغى عليها فكرة السحر والشعوذة وطلب القوة من مصادر خفية. جاء بعد ذلك عصر (المنظمات الحمراء الاندفاعية) تاريخيا تعد هذه القفزة نحو المنظمة الحمراء الاندفاعية أحد أهم الخطوات البشرية في تطور المنظمات، حيث أفرزت هذه المرحلة الإمبراطوريات والزعامات التي انبثق منها العديد من التنظيمات التي كانت تعتمد على القائد البطل الوحيد. انتقلت البشرية بعد ذلك لما يسميه الكاتب (المنظمات العنبرية) ويمكن وصفها بالمنظمات البيروقراطية التي تنتهج أساليب محددة لكل شخص في المنظمة وترى أن ثمة طريقة صحيحة واحدة فحسب لإنجاز الأمور.

انتقل بعد ذلك الوعي البشري إلى (المنظمات البرتقالية) وهي منظمات تؤمن بقدرات الإنسان غير العادية وهي نظام قائم على الجدارات وترى أن كل منظمة يمكن أن تحقق أعلى النتائج بأقل الموارد وارتكز اهتمامها على تطوير العمليات وتعزيز المحاسبية وتحسين المخرجات، وقد شكلت نقلة نوعية في الحضارة والإنجازات البشرية.

ثم أخذ الوعي المنظومي بعدا جديدا تم تسميته (المنظمات الخضراء)، وفي هذه المنظمات يتعزز مبدأ التمكين والتعددية والهياكل الأفقية ومنح الصلاحيات والتفويض يتم فيه تشجيع التشاركية والبعد عن الفردية أو التنافسية إلى التعاون والحرص على التعددية والتنوع، وتتجلى بشكل واضح في الشركات متعددة الجنسيات.

وماذا بعد؟.. يأتي الوعي المنظمي الجديد الذي يطرحه فريدريك لالو.. تحت مسمى المنظمات الفيروزية، حيث يرى منظمات المستقبل وهي تتكون من مجموعات من فرق العمل لا يوجد فيها سلطة عليا تضع الخطط أو تصدر الأوامر، كل ما هنالك هو دستور أو سياسات عامة للمنظمة تقدم لكل فريق ليعمل وفق هذه الأطر العامة، وأحد أهم هذه السياسات لا وجود لمنصب مدير على الإطلاق، ليس على مستوى الفريق وليس من جهة أخرى خارج الفريق، للفريق الحرية الكاملة لإنجاز العمل بالطريقة التي يراها ووفق الاتفاق الذي يصل إليه الأعضاء. لا وجود لإدارة موارد بشرية بالمنظمة ولاوجود لخطط استراتيجية يجب التقيد بها. هناك فقط نواتج تحددها المنظمة لا يجب النزول عن تحقيقها. ليس هناك هيكل تنظيمي بالمنظمة على الإطلاق. ليس هناك مكافآت لموظفين دون آخرين، فالمكافآت تعطى لأعضاء الفريق كافة عند تحقيق المستهدفات. ليس هناك إدارة للمشتريات والميزانيات تخضع لعشرات الإجراءات والاشتراطات، وإنما هناك كامل الحق لكل فريق في تقدير الميزانية التي يحتاجها وفق لدليل السياسات العامة للمنظمة وكذلك الاستشارات التي يطلبها من الجهة الاستشارية في المنظمة (وهي جهة استشارية فقط لا تتمتع بأي سلطة)، كما أن التوظيف يتم من خلال فريق العمل وكل فريق يقدر حاجته ويقوم بالمقابلات والتشاور والتجربة للمتقدم حتى يقرر توظيفه، لا يوجد سلالم للرواتب ولا تقارير للأداء الوظيفي من رؤساء مباشرين لأنه لا وجود للرؤساء إطلاقا في المنظمة.

يتم تقدير الرواتب من خلال جلسات نقاش وحوار يحضرها المتخصصين عن الميزانية العامة للمنظمة والفرق ويتم فيها مناقشة الطلبات برفع الراتب التي تكون دائما مقدمة بالحجج وبشهادات الأقران وكذلك الأداء الوظيفي يعتمد في تقييم الأداء الوظيفي على رأي العملاء وكذلك أعضاء الفريق والأقران، ولا وجود لرأي أي مدير في الأداء الوظيفي. يتم صناعة القرارات في الفريق من خلال المداولة والاجتماعات ولا وجود للمسميات الوظيفية وليس هناك نماذج محددة للعمل أو إدارة المشاريع أو إجراءات التنفيذ وخلافه، كل ما يتفق عليه الفريق يتم تنفيذه دون أي مراجعة لجهة ما في المنظمة، بما في ذلك قرارات الإقالة للفريق الحق بإقالة الموظف الذي لا ينسجم مع الفريق بعد عدد من المداولات والاستشارات من الجهة الاستشارية في المنظمة.

هل كان فيدريك لالو.. يتخيل؟ أو يهذي بنظريات لا يمكن أن ترى النور في الواقع الصعب الذي نراه في منظماتنا المعاصرة؟ على العكس تماما فعلى أرض الواقع درس لالو عددا كبيرا من الشركات ذات الاهتمامات المختلفة، والتي تتبنى منهج المنظمات الفيروزية.. من قطاع الصحة شركة (heilligenfeld) بألمانيا، والتي تعنى بصحة كبار السن ويعمل بها 600 موظف. وحتى شركات الصناعات المعدنية (favi) بفرنسا ويقدر العاملون بها 500 موظف. لم يقتصر ذلك على المنظمات قليلة العدد من الموظفين ففي شركة (AES) بقطاع الطاقة بأمريكا يصل عدد الموظفين إلى 40 ألف موظف. وفي مجال الاستشارات التقنية توجد شركة (BSO) بهولندا وتضم 10 آلاف موظف. والعديد من الأمثلة التي تطرق لدراستها لالو في بحثه للمنظمات الفيروزية، لاحظ أنها شركات مستدامة النجاح ولا يقل عمر أقل شركة فيها عن 30 عاما ويصل بعضها لعمر 80 عاما، وقد مرت بكل فترات الركود والهزات الاقتصادية العالمية دون أن تغير من منهجيتها أو تسرح موظفيها أو حتى تقل أرباحها لدرجة حدود المخاطر.

في التعليم كان ضمن الدراسة مدرسة (ESBZ) وهي مدرسة تضم المراحل العليا لطلاب التعليم العام بألمانيا تأسست عام 2007م وهي مستمرة على التنظيم الفيروزي في بنيتها الإدارية، وقد حازت المدرسة على إشادات وجوائز عالمية لمناهجها الإبداعية ونموذجها التنظيمي. مما يقودنا للتفكير هل يمكن أن نحول مدارسنا لمؤسسات تعليمية فيروزية تتشكل من فرق من التربويين الخبراء والمتخصصين الذين يمنحون كامل الصلاحية لجعل تعلم الطلاب أكثر متعة وأكثر تأثيرا.. هناك مسافة كبيرة جدا للوصول لمرحلة من هذا الوعي المنظومي الذي بدأ يظهر في بقاع عديدة من العالم، وستبقى الأصوات المتخوفة من فقدان السيطرة وانتشار التسيب وتضخم الصراعات وربما لتوغل الفساد في منهجيات مماثلة؛ هي الأصوات الأعلى في مرحلة الوعي الحالية التي لا تؤمن إلا بفكرة المدير والرئيس المباشر والمسؤول الواحد والهياكل التنظيمية وتحديد الأدوار واللوائح والصلاحيات.. إلخ.. من هذه الشؤون التي ولدت في ظروف كانت تتصاعد في تنظيم السلوك البشري لكنها بلغت الحد الذي تحولت معه لتقييده وإلهائه والتشويش على مهامه الحقيقية.

إن المنظمات الفيروزية ما هي إلا انعكاس للسلوك البشري الطبيعي، فلو خرجت مجموعة من الأصدقاء في رحلة برية فإنهم لن يضعوا على أنفسهم مديرا عاما ولن يرشحوا مساعدا للمدير ولن يضعوا هيكلا تنظيميا لنجاح رحلتهم ولن يحددوا إجراءات طويلة عريضة لميزانية الرحلة، سيتصرفون ببساطة كفريق عمل وستنجح رحلتهم دون مبالغة في التنظيمات والإجراءات المعقدة.

إن أحد أكبر أسباب الصراعات في بيئة العمل هو التنافس المحموم على المناصب الإدارية، وهذا التنافس يقود حتى الناس الشرفاء لأن يخوضوا معارك غير شريفة من أجل ذلك. ويجعل الزاهدين في هذه المناصب موظفون ليس لهم أدنى اهتمام وولاء للمنظمة. احذف هذه المراكز والمسميات الوظيفية من ثقافة وسياسة المنظمة وسترى الجميع فيها يتحولون إلى أصدقاء، فليس هناك ما سيتصارعون من أجله، وسيكونون ضمن فرق العمل جميعهم في مستوى واحد من المسؤولية.

قد تتدفق الأسئلة كيف تنجح منظمة دون سلطة تنظيمية؟ ودون ورئيس يبت في المشكلات والصراعات الطارئة، وتسلسل وظيفي يحدد الصلاحيات، وإدارات مالية تقنن عمليات الصرف، وإدارة موارد بشرية تكون مسؤولة عن التوظيف والتدريب، ونماذج تشغيلية.. إلخ.. الحقيقة لا يمكن لمؤسسة أن تنجح دون أن تتضمن هذا كله. إن المنظمات الفيروزية لم تلغي أهمية هذه الشؤون ولكنها استبدلت وجودها بيد أشخاص معينين بالسلطة يمكن أن يتسببوا بالمزيد من المشكلات للموظفين، أو بيد إدارات لا يوجد بينها التفاهم والتنسيق الكافي مع الأفراد التنفيذيين، مما يزيد التحزبات والتحيزات، ووضعت كل هذه الصلاحيات بيد الفريق فالفريق يحدد أدواره بحسب المرحلة التي يعمل عليها؛ عندما يحتاج للتوظيف فهو يتحول لموارد بشرية، وعندما يحدد الميزانية فهو يتحول لإدارة مالية، وعندما ينفذ المهام فهو يتحول إلى جهة تنفيذية، إن هذا يجعل الفريق في غاية الاهتمام للعمل، وفي عمل مستمر للتطور، كما أنه يزيد من شعور الانتماء للحدود القصوى. لن يكون الموظف محدودا بمهمة معينة يفرض عليه تنفيذها بشكل محدد دون أن يكون له أي قرار بكل السياقات الأخرى التي تؤثر على أداءه لهذه المهمة. كل ما هو مهم لتحقيق نجاح ملحوظ للعمل هو التأهيل والتدريب المستمر للفرق للتعامل مع تنوع المهام والصلاحيات والقدرة على الحوار والمناقشة البناءة واحترام أعضاء الفريق. إن الفرق هي الأحوج للتدريب في مجالي التطور الذاتي والمهام المتعددة بدلا أن يتركز التدريب للقيادات كما يحصل في المنظمات الأخرى ليصبحوا مؤهلين لتفويض السلطة لمن هم دونهم في التسلسل الإداري. في المنظمات الفيروزية لا وجود لتسلسل إداري ولا وجود لتفويض من أعلى لأسفل، كل التدريب يحظى به فريق العمل على حد سواء، وجميعهم مسؤولون مسؤولية كاملة في صناعة قرارات العمل.

المنظمات الفيروزية هي نقيض كامل للبيروقراطية. فالبيروقراطية تصنع من قبل ومن أجل الأشخاص المنهمكين بإثبات أنهم ذوو أهمية، وخصوصا عندما يعتريهم الشك بأنهم كذلك. دعنا ننظر للمدرسة - على سبيل المثال - كوحدة أخيره في سلم الهرم من المؤسسة التعليمية، إننا نلاحظ عندما نصعد إلى الوحدات الأعلى من ذلك الهرم نرى حجما هائلا متضخما من المسميات الوظيفية والإدارات والأقسام والفروع، يوازيه حجم أكبر من اللوائح والتنظيمات والسياسات والإجراءات، يرافقه عمل أضخم من اللقاءات والاجتماعات المحمومة التي لا تنتهي في جداول أعمال المسؤولين.. ولكن هل يتبادر لأذهاننا سؤال واحد مهم وضروري.. ما الذي انعكس عن هذا كله داخل المدرسة وعلى الطلاب؟! ولو أوقفنا كل هذا النشاط الخارجي عن المدرسة لأي سبب طارئ أو غير متوقع؛ ألن تتمكن المدارس من الاستمرار في العمل دون الحاجة لكل ما يجري في سلسلة التنظيم العليا؟ هناك مقولات كثيرة تؤكد أن المدارس التي تتميز وتنجح هي مدارس تحقق ذلك بالرغم من النظام التعليمي وليس بسببه. وهي مقولات ليس من أدلة متوفرة - حتى الآن - على إثبات بطلانها.

عموما.. وإلى ذلك الحين الذي تتنظر أن تتطور فيه البشرية لتصل في معظم مؤسساتها للمنظمات الفيروزية. نأمل أن تكون فكرة تمكين المدرسة في نظامنا التعليمي هي خطوة من خطوات طويلة تنتظرنا للاتجاه الصحيح.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق