د. راسل قاسم*
إذا تأملنا عالم ريادة الأعمال نجد أنفسنا أمام مسرحٍ يعجّ بالأفكار الخلاقة والقرارات المصيرية والتحديات غير المتوقعة. يظهر رائد الأعمال على هذا المسرح وكأنه مؤدٍّ متعدد الأدوار، يلقي بنفسه في دوامة الفرص والمخاطر، مستندًا إلى طموحٍ كبيرٍ ورغبةٍ حقيقية في صنع التغيير. وعندما تشتد عواصف السوق ويحتاج هذا الريادي إلى حبل نجاة، تبرز فلسفة «النظر من النافذة وإلى المرآة» خياراً مناسباً في أوقاتٍ كثيرة، إذ توفر توازناً بين تقدير جهود الآخرين وتحميل النفس مسؤولية القرارات، فتمنح رحلة الريادي بعداً أعمق من النضج والالتزام.
يتمثل «النظر من النافذة» في لحظة النجاح حين يختار القائد إرجاع الفضل إلى فريقه أو العوامل الخارجية التي أسهمت في ذلك الإنجاز، بدلاً من الانصراف إلى تمجيد الذات. فالريادي المتفوق يدرك أن العمل الجماعي عنصر جوهري في بلوغ الأهداف الكبرى، وأن تشارك الأفكار والدعم المتبادل هو ما يجعل خطواته راسخة على أرض الواقع. هذا التوجه يعزز الانسجام في بيئة العمل ويغرس جذور الإبداع لدى الأفراد، فيشعر الجميع بأن نجاحهم مشترك.
وعلى الجهة المقابلة، ينظر رائد الأعمال المسؤول إلى المرآة عند الفشل أو التعثر، للوقوف على هفواته وإعادة تقييم قراراته وخططه. في لحظة الصدق هذه، ينكشف الجانب الإنساني للريادي الذي يعترف بما أخطأ فيه، ويسعى جاهدًا لتعديله. إنها لحظة تحمّل للمسؤولية تتجاوز الاتهامات وتبرير الإخفاقات، وتضع الإصبع على مكامن القصور في أساليب العمل أو مدى ملاءمتها لواقع السوق. هذا النهج يحفّز ثقافة التعلم المستمر ويمنح الفريق فرصة للنمو عبر التحديات، بدلًا من الخوف منها.
ينعكس هذا المبدأ أيضًا على رؤية الريادي لما هو آتٍ، إذ يحتاج دائمًا إلى عينٍ تراقب المستقبل لتستشرف التغييرات المحتملة في السوق والتقنية والمجتمع. فهو يصوّب بصره نحو النوافذ المفتوحة على الفرص المقبلة، ويخضع نفسه وفريقه لتقويمٍ دوري أمام المرآة، متسائلًا: هل نتحرّك في الاتجاه الصحيح؟ هل نمتلك المرونة الكافية لمواجهة أي منعطف قادم؟ إن هذا المزيج من التواضع والإصرار يحول التوقعات الضبابية إلى خططٍ ملموسة وخطواتٍ محسوبة.
ولا يقف تأثير هذه الفلسفة عند حدود المؤسسة، بل يشمل الجمهور والشركاء أيضًا. فالإنجاز الذي يُعلن عنه يخلق تفاعلًا لا يقتصر على مدير المشروع أو مؤسسه، بل يشمل العملاء والمستثمرين وجميع المهتمين بالمجال. وحين تعزز روح الحوار والشفافية، يصبح كل نجاح موضع احتفاء جماعي، ويجد كل فشل من يعترف به ويدعو إلى تحليله وتجاوزه. في المقابل، تعكس التجارب الواقعية مدى هشاشة الشركات التي تكتفي بخطاب تسويقي براق عند الفوز، ولا تحسن الاعتراف بالأخطاء عند الانكسار.
فمثلاً، انطلقت شركة «سلاك» Slack عام 2013 وكانت في الأصل أداة داخلية للتواصل بين مطوري لعبة فيديو قبل أن تطرح للجمهور كمنصة تسهّل العمل الجماعي. منذ انتشارها، تبنت الشركة سياسة شفافة في الاعتراف بالفضل للمستخدمين الذين يغنون منتجاتها بتعليقاتهم ومقترحاتهم، وقد أسهم ذلك في تحفيز التطوير المستمر للمنصة. في المقابل، تُصدر الشركة بانتظام تقارير توضح أسباب أي خلل أو انقطاع في الخدمة، متعهدة بإصلاحه فورًا ومشاركة الدروس المستفادة مع الجمهور. هذا الأسلوب الواضح في التعامل مع النجاحات والإخفاقات ساهم في بناء ولاء عالٍ لدى عملائها.
وكذلك شركة «ليمونيد» Lemonade التي تأسست عام 2015 وتمكنت سريعاً من اكتساب ثقة واسعة بفضل مقاربتها الابتكارية في تقديم خدمات التأمين على الممتلكات والمساكن. يقوم نموذج العمل على تبرع الشركة بالمتبقيات من أقساط التأمين لجمعيات خيرية من اختيار العملاء، ما يعكس التزاماً أخلاقياً يربط النجاح الجماعي بالمصلحة المجتمعية. تبرز الشركة دائماً الدور الإيجابي لعملائها ومجتمعها الخيري في تحقيق نجاحاتها، وفي المقابل، حين تظهر مشكلات تتعلّق بالتعويضات أو دقة الخوارزميات، تسارع إلى تحمل المسؤولة وإصدار بيانات تشرح مواضع الخلل والأعمال التصحيحية التي ستتخذها.
إن قوة فلسفة النافذة والمرآة تكمن في بساطة مبدئها وعمق أثرها. قد نحتاج جميعًا إلى لحظة نقف فيها أمام النافذة لنرى العالم بإيجابية، نرصد الفرص ونثني على من دعمنا، دون أن نغفل لحظة المراجعة الصادقة أمام المرآة. وفي كلا المشهدين، يبقى الهدف الأسمى هو بناء مؤسسة ريادية قادرة على تحقيق نتائج استثنائية رغم كل التحديات التي تقف في طريقها.
*خبير إداري
0 تعليق