loading ad...
أمضي في شارع "غران فيا"، في مدريد، ليلاً، فيما الهواء البارد يلفح وجهي. أفكّر في مسرحية "أنستازيا"، التي شاهدتها وسط جموع غفيرة غير مكترثة باحتمالية انتقال العدوى آنذاك.اضافة اعلان
أنستازيا، ابنة آخر قياصرة روسيا، التي بقيَ مصيرها مجهولاً بعد أن اغتيلت عائلتها بالكامل على يد البلاشفة، فقيل إنها نجت من الإعدام بالرصاص وفرّت، ليبقى الأمل يحدو الجدة بالعثور عليها.
كنت أفكر في قريبي أحمد البوّ، أبي خالد، الذي فقدَ أطفاله ووالدتهم وأنسباءه، في حادثة إطلاق نار في نهر الأردن، عقب نكسة العام 1967، وبقيَ مصير الأبناء مجهولاً، ما جعله وجدّتهم يبحثون عن الأطفال في ملاجئ كيان الاحتلال، أعواماً طوالا، من دون أن يهتدوا إلى شيء.
في تلك الليلة، كان أبو خالد يُنزِل زوجته وذويها في النهر، حاملين على أكتافهم الأطفال، ولم يكد يهمّ بالمضي وراءهم في الماء، عائدين من الضفة الشرقية نحو الضفة الغربية، حتى انثال وابل من رصاص جيش الاحتلال، فاختلطت النداءات بالصراخ والعويل، واختلطت الدماء بماء النهر، ولم يعلم أحد، في جُنح الليل، من قضى ومن نجا.
أمسكَ أبو خالد بخيط أمل، حين أخبره فلسطينيون كانوا قريبين من موقع الحادثة أن صوت أطفال يبكون كان مسموعاً مع جنود الاحتلال، ما قد يُرجّح أن الكبار قضوا والصغار نجوا. لم يتمخّض البحث عن نتيجة. غالبَ أبو خالد أحزانه بعد أعوام من رجوعه إلى فلسطين، ذلك الرجوع الدامي، وتزوّج وأسّس عائلة جديدة هناك قيل إن أطفالها حملوا اسم الأطفال مجهولي المصير في حادثة النهر.
بقيَت الحكاية حبيسة صدور أهالي قرية أبو ديس، ولم تنفكّ جدتي وهي ابنة عمّ أبي خالد تحدثني عنه، قائلة إنه بقي حتى النزع الأخير يتأمل في وجوه جنود الاحتلال؛ لعله يلحظ شبهاً ما بأطفاله، بعد أن أخبره البعض أن أطفال الفلسطينيين الذين يأخذهم الجيش يُودَعون في "الكيبوتس" ومن ثم في التجنيد.
جمهور "أنستازيا" يغرق في دهشته، خلال العرض، ويُغدِقُ في الاحتفاء عقب انتهائه، فيما أغبط أنستازيا التي خلّد الفن حكايتها وأوصلها إلى خشبات المسارح، حتى وإن كان مصيرها وعائلتها مأساوياً، لكنها لم تكن رقماً ضمن ضحايا بالآلاف، ولم تُطوَ سيرتها وتغرق في النسيان، بل لا يزال هنالك من يذكرها ويُخلّدها ويُجسّدها، فيما أتمنى، وأنا بين هذه الجموع، لو أن بوسعي إخبارهم أن حكاية أكثر فظاعة من حكاية أنستازيا حدثت، وأن فصولها لا تزال مستمرة حتى اللحظة في بلاد محتلة لا يعلم عنها الغرب كثيراً.
الحكايات الفلسطينية لا تنتهي، ولكل عائلة فلسطينية حكايات وحكايات، ولكل قرية أو مدينة آلاف الحكايات التي لا بد من تخليدها وإيصالها إلى العالم، بدءاً من جور ما قبل النكبة على يد الاستعمار ومن قبله العثمانيين، مروراً بحكايا اللجوء والمخيمات، وليس انتهاء بالملاحم التي يسطرها الفلسطينيون يوميا.
أنستازيا، ابنة آخر قياصرة روسيا، التي بقيَ مصيرها مجهولاً بعد أن اغتيلت عائلتها بالكامل على يد البلاشفة، فقيل إنها نجت من الإعدام بالرصاص وفرّت، ليبقى الأمل يحدو الجدة بالعثور عليها.
كنت أفكر في قريبي أحمد البوّ، أبي خالد، الذي فقدَ أطفاله ووالدتهم وأنسباءه، في حادثة إطلاق نار في نهر الأردن، عقب نكسة العام 1967، وبقيَ مصير الأبناء مجهولاً، ما جعله وجدّتهم يبحثون عن الأطفال في ملاجئ كيان الاحتلال، أعواماً طوالا، من دون أن يهتدوا إلى شيء.
في تلك الليلة، كان أبو خالد يُنزِل زوجته وذويها في النهر، حاملين على أكتافهم الأطفال، ولم يكد يهمّ بالمضي وراءهم في الماء، عائدين من الضفة الشرقية نحو الضفة الغربية، حتى انثال وابل من رصاص جيش الاحتلال، فاختلطت النداءات بالصراخ والعويل، واختلطت الدماء بماء النهر، ولم يعلم أحد، في جُنح الليل، من قضى ومن نجا.
أمسكَ أبو خالد بخيط أمل، حين أخبره فلسطينيون كانوا قريبين من موقع الحادثة أن صوت أطفال يبكون كان مسموعاً مع جنود الاحتلال، ما قد يُرجّح أن الكبار قضوا والصغار نجوا. لم يتمخّض البحث عن نتيجة. غالبَ أبو خالد أحزانه بعد أعوام من رجوعه إلى فلسطين، ذلك الرجوع الدامي، وتزوّج وأسّس عائلة جديدة هناك قيل إن أطفالها حملوا اسم الأطفال مجهولي المصير في حادثة النهر.
بقيَت الحكاية حبيسة صدور أهالي قرية أبو ديس، ولم تنفكّ جدتي وهي ابنة عمّ أبي خالد تحدثني عنه، قائلة إنه بقي حتى النزع الأخير يتأمل في وجوه جنود الاحتلال؛ لعله يلحظ شبهاً ما بأطفاله، بعد أن أخبره البعض أن أطفال الفلسطينيين الذين يأخذهم الجيش يُودَعون في "الكيبوتس" ومن ثم في التجنيد.
جمهور "أنستازيا" يغرق في دهشته، خلال العرض، ويُغدِقُ في الاحتفاء عقب انتهائه، فيما أغبط أنستازيا التي خلّد الفن حكايتها وأوصلها إلى خشبات المسارح، حتى وإن كان مصيرها وعائلتها مأساوياً، لكنها لم تكن رقماً ضمن ضحايا بالآلاف، ولم تُطوَ سيرتها وتغرق في النسيان، بل لا يزال هنالك من يذكرها ويُخلّدها ويُجسّدها، فيما أتمنى، وأنا بين هذه الجموع، لو أن بوسعي إخبارهم أن حكاية أكثر فظاعة من حكاية أنستازيا حدثت، وأن فصولها لا تزال مستمرة حتى اللحظة في بلاد محتلة لا يعلم عنها الغرب كثيراً.
الحكايات الفلسطينية لا تنتهي، ولكل عائلة فلسطينية حكايات وحكايات، ولكل قرية أو مدينة آلاف الحكايات التي لا بد من تخليدها وإيصالها إلى العالم، بدءاً من جور ما قبل النكبة على يد الاستعمار ومن قبله العثمانيين، مروراً بحكايا اللجوء والمخيمات، وليس انتهاء بالملاحم التي يسطرها الفلسطينيون يوميا.
0 تعليق