loading ad...
حين تتلقى دعوة إلى مؤتمر دولي مخصص للاستثمار، وأنت مقاتل في معركة البيئة والمناخ، تعتقد للوهلة الأولى أن خطأ ما حصل في الاسم والعنوان. لكنك تكتشف أنك مدعوّ بالتحديد، بناء على عملك البيئي، كي تناقش مع اختصاصيين ومستثمرين سُبُلَ تحويل المساحات الخضراء في المدن إلى فرص استثمارية مستدامة. كما تتذكّر أنك دخلت إلى رحاب البيئة من باب الهندسة المعمارية والتصميم المديني. وأن أبوظبي هي الموقع المثالي لمناقشة ربط التطوير المتكامل للمدن بالبيئة والمناخ، بجمعها بين التراث والحداثة، وإدخال الطاقة المتجددة والكفاءة ورعاية الموارد، وسياسات التنمية المستدامة عامة، جزءاً متكاملاً في خططها وبرامجها.اضافة اعلان
قد لا يكون هناك مكان أفضل من الإمارات لبحث تخضير المدن. فخلال سنوات قليلة تحوّلت مدنها، خصوصاً أبوظبي ودبي، من أراضٍ جدباء قاحلة إلى واحات خضراء. وأذكر ما قاله لي باني الدولة الشيخ زايد في مقابلة خاصة لمجلة "البيئة والتنمية" عام 1997، من أنه يزرع الغابات لكي "يستأنس البشر، وتتوازن الطبيعة والخليقة من جديد". وشرح رؤيته بأنه "لو ازدهر الإنسان ولم تتأمن معيشة الحيوان وسلامة الطبيعة، فهذا قلّة إنصاف".
وأبرز ما فاجأني في تلك المقابلة اقتناعه أن برامج التشجير والتخضير تساهم في تحسين أحوال الطقس والحدّ من التغيُّرات المناخية. وتذكّرت أن هذه الرؤية الثاقبة، قبل نحو ثلاثين عاماً، كانت سابقة لعصرها، حين كان الحديث عن تغيُّر المناخ في بداياته، وكان معظم من اضطروا إلى الالتحاق بالركب اليوم ينكرونه.
من يستثمر في تخضير المدن؟ نظراً إلى أن المساحات الخضراء المفتوحة للناس، من غابات وحدائق ومنتزهات وساحات، هي سلع وخدمات عامة، فإن القطاع العام هو المسؤول عن الاستثمار في إنشائها. لكن التخضير، عدا عن كونه خدمة عامة، يجعل المناطق الخضراء مرغوبة من الناس للسكن والعمل، ما يؤدي إلى جذب الاستثمارات إليها من المطوّرين العقاريين في القطاع الخاص. لكن جذب القطاع الخاص لضخ الاستثمارات في تخضير المناطق الجرداء وفتحها مجاناً للعموم، عملية تتطلب حوافز تشجيعية، لأن المستثمر ينتظر مردوداً مادياً مجزياً. ومن التدابير التحفيزية الممكنة منح المستثمرين في تخضير الأراضي العامة بعض الحقوق الحصرية، مثل تشغيل المتاجر والمطاعم وصالات الترفيه لسنوات محدودة. لكن هذا يجب أن يترافق مع قيود صارمة لتجنُّب "الغسل الأخضر"، من خلال عدم السماح للشركة بالترويج لمساهمتها "الخضراء" على أنها التزام كامل بالمسؤولية الاجتماعية، للتغطية على عملياتها الملوِّثة في قطاعات أخرى.
لا بد أن تحكم برامج تخضير المدن العربية قواعد تنطلق من طبيعة كل بلد، في مناطق جغرافية متنوعة الخصائص من المحيط إلى الخليج. فما يصحّ في المغرب يختلف عن المشرق والخليج ووادي النيل، عدا عن الأحوال المناخية المتفاوتة داخل كل بلد. واللافت أن بعض المدن التي كانت خضراء تاريخياً، لتمتعها بطقس معتدل وإمدادات مياه طبيعية كافية وتربة خصبة، مثل بيروت والقاهرة والإسكندرية، تفقد حدائقها العامة وغاباتها الطبيعية بسبب التوسُّع الحضري غير المتوازن والتنمية العمرانية التجارية المنفلتة من مستثمرين جشعين، والإهمال والسياسات الحكومية القاصرة، في حين أن مدنا أخرى في مناطق كانت جرداء قاحلة تحوّلت إلى واحات خضراء. وفي طليعة المدن المتحوّلة أبوظبي ودبي والرياض، التي وسّعت غطاءها الأخضر إلى ما يتجاوز 7 في المائة، وهو أعلى من الحدّ الأدنى الذي يُنصح به لضمان صحّة المدن.
الأهم أن هذه المدن اعتمدت مفهوم "الاقتصاد الدائري" في تخضير أراضيها. فهي تستخدم مياه الصرف الصحّي المعالجة لريّ المساحات الخضراء، بينما كانت تُهدَر سابقاً بتصريفها في البحر. كما أن أبوظبي تضخّ فضلات المياه الزراعية والرمادية في الآبار الجوفية بعد معالجتها، وذلك لتجديد مخزون تلك الآبار والحفاظ عليها كاحتياطي استراتيجي.
وقد عرض أحد روّاد الأعمال في إبو ظبي مشروعاً للاستثمار هو تحويل "الحمأة"، أي الفضلات الصلبة الناجمة عن معالجة المجارير، إلى بديل للتربة الزراعية، بعد تنظيفها بأساليب مستحدثة. وهذا يجعل تدوير مياه الصرف عملية متكاملة، بتحويلها إلى مياه للريّ وتربة زراعية خصبة. واعتماد هذه التقنية بنجاح سيوفّر على الإمارات مليون طن من التربة الزراعية تستوردها سنوياً لاستخدامها في استصلاح الأراضي، كما سيمنع في الوقت نفسه الأضرار البيئية الناجمة عن الفضلات السائلة والصلبة للمجارير.
ولما كانت السياسات العامة السليمة هي العامل الأهمّ لنجاح برامج التنمية المستدامة، ومنها تخضير المدن، ينبغي أن يُفرض على البلديات والسلطات المحلية تخصيص نسبة مئوية دُنيا للمساحات العامة الخضراء ضمن نطاق عملها. وكذلك فرض مساحات دُنيا خضراء في مشاريع المطوّرين العقاريين والقطاع الخاص، أكانت مجمّعات كُبرى أم أبنية أم منازل عائلية. كما يمكن إعطاء حوافز تشجّع القطاع الخاص على الذهاب أبعد من هذا، مثل منح إعفاءات ضريبية وزيادة المساحات المسموحة لتصاريح البناء، لقاء إنشاء حدائق بمواصفات خاصة على سطوح الأبنية، كما في مدن مثل جنيف، حيث الاكتظاظ العمراني يجعل الأراضي الفارغة نادرة.
كما يتوجب على خطط التنمية مراعاة اعتبارات الأمن المائي عند وضع برامج التخضير والتشجير، في منطقة هي الأكثر فقراً بالمياه الطبيعية العذبة في العالم. وبما أن الأمن الغذائي لا ينفصل عن الأمن المائي، يجب تضمين كل مشاريع التخضير نسبة معينة من الأشجار والنباتات المثمرة الصالحة للاستخدام البشري، فلا تقتصر على نباتات الزينة، على أن تكون جميعها من أنواع تتناسب مع طبيعة المحيط وتتطلب أقل كمية ممكنة من المياه للري.
أبعد من أهمية تخضير المدن لجعلها أماكن أفضل للعيش وتحسين نوعية الحياة، علينا الحفاظ على النظام الإيكولوجي الفريد للصحراء، التي تكتنز تراثاً طبيعياً وإنسانياً غنياً يدعو إلى الفخر ويستحق الرعاية. كما علينا أن نستخدم التكنولوجيا في السبيل الصحيح، وذلك لمساعدة الطبيعة على التجدد فتستمر بإمدادنا بالموارد، لا لمعاندتها وصولاً إلى استنزافها وتدميرها.
*الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة "البيئة والتنمية".
0 تعليق