البدو وتبييض صفحة المنطقة

صحيفة مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
في هذا الجزء من العالم؛ الأحداث لا تتوقف. هو منبع الأخبار العاجلة، إنه وجبة دسمة للإعلام الإقليمي والعالمي. تقتات عليه الصحف والفضائيات. حتى نحن لنا نصيبنا من ذلك القوت. أقصد الصحافيين والكتاب. وتجار الموت كذلك. ومقاولي السلاح. كلٌ له نصيبه، بما في ذلك راسم الخرائط. فهذا القسم من الأرض، يُمسي على وضع مرسوم، ويستفيق على آخر. وهذا طبيعي.

والقضية ليست وليدة اليوم أو الأمس. إنها ضاربة في التاريخ. أرشيف كثير من دول المنطقة مثقل بالجراح، والجراح هي الحدث الذي تصنعه السياسة، ويعيشه الإنسان. والسياسة كمصانع الحديد، لا يمكنها أن تعيش دون النار.
في مطلع الثمانينيات أشعل صدام حسين حربا ضروسا مع إيران. حينها لم يبقَ الجيران كمتفرجين، وعلى رأسهم السعودية. تدخلها كان حتميا، ليس من أجل صدام، بل لمساندة الشعب العراقي، المحكوم في الأصل بالحديد والنار.

بالمناسبة فالجميع ساند صدام حتى لو معنويا، ما عدا حافظ الأسد. فقد كان بين الرجلين ما صنع الحداد. لدرجة - ومن باب التندر - أن الأسد كان يبث في التلفزيون السوري أغنية "يا صبحة هاتي الصينية" للفنان موفق بهجت، استفزازا لصدام الذي يستشيط غضبا من بث الأغنية، إذ إن اسم والدته صبحة طلفاح المسلط. القصد من هذه القصة شرح عمق الخلاف بين الزعيمين، الذي لا يرقى لخصومة طفلين على قطعة حلوى.

المهم، في أزمة لوكربي عام 1988م، التي تمثلت في إسقاط طائرة ركاب أمريكية فوق أسكتلندا، واتهم بها الزعيم الليبي معمر القذافي، لم تقف المملكة مكتوفة الأيدي. بل إن وزير خارجية القذافي المنشق عليه عبدالرحمن شلقم، قال أنه التقى الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، في الولايات المتحدة الأمريكية، وقطع له وعدا ألا يلقي هذا الملف حتى يخرج الشعب الليبي من هذه الأزمة. وتحقق ذلك.

في 2017 نجحت الرياض، في وساطتها بإسقاط العقوبات الأمريكية على نظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، والتي أوقعتها واشنطن على الخرطوم منذ عشرين عاما.

وأسهمت المملكة بدفع باكستان والهند لتجاوز خلاف متفجر، نظير نزاع الدولتين على إقليم كشمير، وقامت بدور أدى إلى إخماد النيران المشتعلة بين البلدين، وأسست لأرضية تضبط العلاقة المتوترة بينهما.

ذكرت في مقالي الأسبوع الماضي بعضا من المواقف السعودية في صنع السلام. والآن أتيت ببعض المواقف المختلفة، لأن المجال لا يتسع لذكرها، فهي بحاجة إلى سلسلة مقالات. ما أردت قوله هذا اليوم، إنه ورغم كل ذلك الجهد الخارجي، لم تغفل يوما ما، المضي قدما في صناعة التحديث الداخلي.

قد يصاب المرء بالذهول حول كيفية القدرة على الحركة الديناميكية، لدولة رهنت نفسها لصنع السلام، والتنمية الداخلية، التي تنعكس على حياة الإنسان.

الحقيقة هناك عدة عوامل تعتمد عليها الدولة في التوفيق بين العمل الخارجي والداخلي. ما هي؟ أولا: إخلاصها في حمل الرسالة السامية الإنسانية، وأنها تجتهد بدبلوماسيتها وقنواتها الرسمية، لأن يعم السلام المحيط والإقليم والعالم.

ثانيا: تعويلها على الشارع السعودي داخليا، الذي يقف وراء دولته كعامل مساند لها لا عبء عليها. من هنا يمكن فهم تشبيه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الشعب السعودي بجبل طويق. كناية عن وقوفه – أي الشعب - وراء بلاده.

فالمملكة دون أدنى شك، تراعي قياس مدى رضا الرأي العام حول أي قضية أيا كانت. ما الدليل على ذلك؟ انصرافها عن جميع الضغوطات الدولية التي قد تمارس عليها. وهذا في السياسة أمر مباح، أن يضغط أحد على الآخر اليوم، وتنقلب المعادلة يوم الغد.

سأتحدث بكل شفافية، إن المملكة تراعي الشارع المحلي. وأستدل بملف التطبيع مع إسرائيل. فكما هو معروف أن كل رئيس أمريكي يدخل المكتب البيضاوي في واشنطن، يستميت لأن تصل الرياض وتل أبيب إلى اتفاقية سلام أو تطبيع، سمها ما شئت. لماذا؟ حتى يجير ذلك كنجاح في مسيرته السياسية والشخصية.

لكن المملكة تختلف في مقاييسها، وهي التي وضعت شروطها على الطاولة منذ عام 2002 في العاصمة اللبنانية بيروت. هذا من حيث الظاهر. وفي المضمون فالذهنية السياسية السعودية وصانع القرار لا يمكن له ألا يراعي بدرجات معينة الرأي العام، الذي يرفض هذه الفكرة، نتيجة البطش الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني. وهذا بكل أسف ما لم يفهمه الغرب، وبعض من العرب.

ومن جانب آخر، فمراعاة الرأي العام المحلي في الداخلي السعودي، هو الذي دفع الدولة لتبني مشاريع عملاقة، تسهم في تغيير بوصلة العالم بكل النواحي. لتحقق الرياض من ذلك عدة مكاسب، داخلية وخارجية. الداخلية أهمها تعزيز ارتباط ابن الوطن بالوطن. وخارجيا من خلال الانفتاح على العالم لتبديد الأفكار المغلوطة تجاهها ونحو المنطقة بأسرها.

أتصور أن وجود المملكة، كحديقة بساتينها خضراء، في وسط دول مشكلة من الرمال والدم، والرجعية، هي عبارة عن قصة كبرى لم يستوعبها البعض بعد، لأن الكثير عبارة عن مأسوري الرأي والعقل، لمشاريع وهمية، قامت على الارتهان للطائفية والكراهية المقيتة، والتعالي على الآخر.

إن الحياة دروس. فمن قال يوما عن السعوديين رعاة إبل، سقط وذهب إلى جهنم الحمراء. ومن ربطهم بالصحراء، أصبح لاجئا مشرد. تقاذفهم الجميع. انصرفوا للإنجاز وتنمية بلادهم. فرضوا أنفسهم على المشهد العالمي في أوبك، في مجموعة العشرين. ظفروا أخيرا باستضافة كأس العالم 2034. هذا قليل من كثير.

إنها قصة البدو.. في تبييض صفحة المنطقة. سأذهب إلى ناقتي. مع السلامة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق