لا أعتقد أن سبب رفع الرسوم الجمركية هو إعادة الوظائف لأمريكا، حيث إن نسبة البطالة في أمريكا منخفضة وتقف حاليا عند 4%، بالإضافة إلى أن نسبة المشتغلين مرتفع جدا عند المقارنة بعدد السكان. والأهم من ذلك أن استهداف توطين تلك الصناعات والمنتجات في أمريكا، سيرفع من قيمتها على المستهلك النهائي. لذلك أستبعد هذا السبب أو الدافع، خصوصا أن نسبة البطالة في أمريكا كانت دائما منخفضة خلال سنوات وفترات طويلة.
يعتقد آخرون بأن السبب هو (محاولات) سد عجز الميزانية الفدرالية للحكومة الأمريكية والذي وصل إلى 1.7 تريليون دولار، والذي يتم تعويضه من الاقتراض المتزايد، حيث وصل الدين العام الفدرالي للحكومة الأمريكية قرابة 35 تريليون دولار. سبب العجز هو أن الإيرادات للحكومة الفيدرالية تصل إلى 4.5 تريليونات دولار، بينما الإنفاقات تتخطى 6.2 تريليونات دولار بما فيها فوائد الدين والتي تصل إلى 660 مليار دولار سنويا.
دعني أتوقف عند الإيرادات البالغة 4.5 تريليونات دولار، والتي تمثل جميع أنواع الضرائب منها 98%، حيث إن الضرائب على الأفراد تصل إلى 2.2 ترليون دولار بينما ضرائب الرواتب 1.6 تريليون دولار وضرائب دخل الشركات 420 مليار دولار.
فيما أن الإيراد من الرسوم الجمركية فقط 80 مليار دولار سنويا. وبحسبة خارج جميع المعادلات، فلو تضاعفت الرسوم الجمركية بنسبة 1000% (ألف بالمئة، أي 10 أضعاف) لن تسد حتى 50% من العجز السنوي، والمتزايد سنويا، والذي يرفع الدين الفدرالي الذي وصل قرابة 35 تريليون دولار، كما ذكرنا أعلاه، ناهيك عن ذكر الأضرار التي سترفع أسعار السلع والخدمات المستوردة والمحلية داخل أمريكا.
ولذلك في رأيي المتواضع، أن الدوافع والأسباب لرفع الرسوم الجمركية ليست لإعادة توطين الصناعة في أمريكا ولا توطين وظائفها، وأيضا ليست لسد عجز الميزانية الفدرالية. تفاوت الآراء في الإعلام بناء على تصريحات متفاوتة من مسؤولين ومحللين سياسيين واقتصادين، ولكن جميعها غير مقنع. الخلاصة أنه لا توجد دوافع واضحة ذات جدوى من التغيير، وربما السبب هو المعاملة بالمثل، حيث إن الشركات الأمريكية تدفع ضرائب جمركية أكثر عند دخول صادرات أمريكا في كثير من دول العالم، ولكن أيضا ليس هناك فائدة واضحة من ذلك للحكومة الأمريكية.
نأتي إلى الجزء الآخر، وهو ما مدى تأثير رفع الرسوم الجمركية من أمريكا، وردة الفعل برفع رسوم جمركية على البضائع الأمريكية في بعض بقية دول العالم. الموضوع ليس سهلا، ولا يوجد قراءة واضحة لما سيحدث، خصوصا أنه ربما سيكون هناك تغير كبير في متغيرات المعادلة من أمريكا، ومن بقية دول العالم من الجهة الأخرى. والطبيعي أن لا يكون هناك قراءة واضحة، واستبدلتها دول العالم برسم سيناريوهات (سيناريو متفائل، وسيناريو متوسط، وسيناريو متشائم). الجميع يتوقع أن تكون هناك مراجعات وربما تراجع عن رفع الرسوم الأمريكية، أو بأقصى حد، خفض الرسوم كثيرا، وهذا هو السيناريو المتفائل الذي يطمح له الجميع، ولكن الكل محتاط لأسوأ السيناريوهات، حيث إن جميع الدول تعيد حساباتها وتحاول تغيير استراتيجياتها للحد من الصادرات إلى الأسواق الأمريكية.
فالصين مثلا، بدأت بهذه الاستراتيجية من قبل سنوات، حيث إن الصين بدأت منذ عام 2017م بخفض حصة الـ20% من صادراتها إلى 15% بعد خلق أسواق ومنافذ جديدة وبديلة. قبل الحديث عن السيناريو المتوسط، أتكلم عن السيناريو المتشائم، فالجميع يعمل على تصور كامل في حال ثبتت أمريكا رسومها الجمركية، والجميع يبحث عن حلول بديلة سريعة بما فيها الاستعداد لخفض التكاليف لحين خلق فرص جديدة، وهذا السيناريو سيكون - لو حصل - تأثيره صعبا على كثير من الدول، فهو سيرفع أسعار السلع والخدمات وتبعاتها الاقتصادية. أما السيناريو المتوسط، وهو ما بين السيناريو المتفائل والسيناريو المتشائم، فغالبا ستعمل الدول والشركات على البقاء تحت ظله حتى تكسب المزيد من الوقت وتبدأ في البحث عن أسواق جديدة وبديلة. في كل الأحوال، الحدث الأكبر هو اهتزاز موثوقية المستثمرين من خارج أمريكا، ومن داخلها، فالتغيرات السريعة المؤثرة لا تتماشى مع دراسات جدوى أي استثمار.
والشيء الآخر، هو أن الضرر الأكبر سيكون على سكان الولايات المتحدة، حيث إن أسعار السلع والخدمات سترتفع بينما تحصيل رسوم جمركية مضاعفة لن تخدمها ولن تعوض رفع أسعار السلع والخدمات. أخيرا، رغم صعوبة تحليل الموضوع بالكامل، إلا أنه لا يوجد سبب أو دافع مقنع ومجزٍ اقتصاديا أو سياسيا، والموضوع ترك حتى الآن الدول المصدرة لأمريكا تبحث عن أسواق بديلة وأنشطة جديدة، بالإضافة إلى أن المستثمرين سيعيدون حساباتهم كثيرا في جدية أي جدوى حتى طويلة المدى في ظل تغيرات سريعة لأنظمة تأثيرها كبير. يبقى اقتصاد العالم والتبادل التجاري بين الدول منتعشا ومتعايشا مع طبيعته عندما يجد الاستقرار وبعيدا عن المتغيرات السريعة.
Barjasbh@
0 تعليق