loading ad...
من بين رماد الحرب تنهض الحكايات، ومن بين أنقاض رفح تصرخ الحقيقة عارية، دامعة، محاطة بالأسلاك والدبابات.. شاهدة على زمن لا يرحم.اضافة اعلان
لم أكن أدرك أن المدينة التي لطالما كانت لي ملاذًا وملجأً، وأنا ابنها، ستتحول يومًا إلى مدينة أشباح وقبر مفتوح. رفح التي كانت تطلّ من بين شجر الزيتون على البحر الأبيض المتوسط، أصبحت اليوم مطوّقة بالدخان، وشاهدة على مجازر عدة.
كانت رفح مكانًا أذهب إليه لأتنفّس وغيري الكثير من أبناء المدينة والقطاع، أقولها بنبرة متكسّرة. لم أقصد بذلك المجاز الأدبي، بل أقصد الهواء فعلًا، والهدوء الذي يتسلل من بين أشجار اللوز في بساتينها الشرقية، ومن زقزقة الطيور فوق ما تبقّى من أرض مطار غزة المدمر.
أقول شهادتي بصوت غلب عليه الإرهاق، كل زاوية في رفح كانت تحكي لي قصة.. كنت أصحو على صوت المآذن في حي مصبح، وخربة العدس، وأمشي مشيًا طويلًا بين الشوارع القديمة التي تحكي تاريخ أهلها. لم أجد مدينة مثل رفح، فيها بحر وأناس طيبون وزراعة وبساطة وكرم وجود، وزائرونا يعرفون هذه الخصال.
الاحتلال يقطّع الأوصال و«موراغ» كان جزءاً من «غوش قطيف»
اليوم بقت مقبرة جماعية، جسدًا ميتًا؛ الشوارع اختفت معالمها، والبحر مغلق، والمزارع محروقة، وأهلها نزحوا منها وتاهوا في البلاد.
في كل زاوية من رفح تركت ذكرى؛ على شاطئها الغربي، في أزقتها الزراعية شرقًا، بين بسطات الجوافة على شارع البحر، وحتى قرب بوابة صلاح الدين، حيث كانت الأنفاق تنتفض في سنوات الحصار. المدينة كانت نافذة غزة نحو العالم، فتحوّلت الآن إلى قبوٍ مظلم تُلقى فيه جثث أبنائها جماعة تلو الأخرى.
الطوق الحديدي
منذ الخامس من أيار/مايو 2024، بدأ زحف القوات الإسرائيلية نحو المدينة الجنوبية. كان الهجوم البري متوقّعًا، لكن ما حدث فاق كل كوابيس الحرب. توغّل الجنود في الأطراف الشرقية للمدينة، ثم زحفوا نحو الشمال، فالوسط، حتى باتت رفح الآن محاصَرة بالكامل من الجهات الأربع.
لم يترك الاحتلال ثغرة للحياة؛ المعابر مُغلقة، والمياه نضبت، والمخابز أُحرقت، والطرقات قُطعت. مدينة كاملة أصبحت مجرّد لوحة رمادية متكسّرة، يعلوها طنين طائرات الاستطلاع ليلًا ونهارًا، وتغمرها أشلاء البشر تحت ركام البيوت.
جيش الاحتلال في رفح، ويفعل فيها المجازر منذ أيار/مايو من العام الماضي، وحتى الآن لم يخرج منها، فبعد وقف إطلاق النار في 19 كانون الثاني/يناير من العام الحالي، تمركز قرب أحيائها الجنوبية والغربية، ولم يتوقف لحظة عن استهداف المدنيين فيها. وبعد استئنافه للحرب في 18 آذار/مارس الماضي، توغل في كل شبر منها، ثم أجبر مئات الآلاف من أهلها على النزوح، وحاصرت آلياته وطائراته البعض منهم على طرق الفرار وقتلتهم بلا رحمة.
أحاول في كل مرة كصحافي، أن أوصل صوت الناس. لكن كيف؟ ما في كهرباء ولا إنترنت، ولا حياة أصلاً. كنت أكتب شهادات الناس على دفتر صغير، يمكن أن يجدوه لاحقًا، لكي يعرفوا ماذا حصل في المدينة.
في موجة النزوح الأخيرة من رفح، رأيت أناسًا تريد أن تحرج من رفح فلا تعثر على طريق. سيارات الإسعاف تُمنع، الجرحى ينزفوا بالساعات، وإذا نجا أحد من القصف، يموت من النزيف. عشنا ساعات من الرعب والدم ليس لها مثيل.
إياد أبو عمرة، 42 عامًا، يعمل سائقًا في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني منذ أكثر من 15 سنة، لكنه يقول إن الشهور الأخيرة في رفح كانت «أقسى من كل الحروب السابقة».
يقول: «كنا نشتغل تحت النار، نركض بين القصف والدخان. كل مرة أطلع بالإسعاف، أودّع أولادي، لأنه ما كنتش عارف إذا راح أرجع ولا لأ».
يروي إياد تفاصيل يوم لن ينساه، حين تلقّى بلاغًا عن استهداف منزل في حي الجنينة: «وصلنا المكان بعد 20 دقيقة من النداء، لأن الطرق كانت مدمرة، والشارع كله ركام. حينما وصلنا، كان يوجد شاب تحت الردم يصرخ.. حاولنا نطلّعه، لكن الطيارة رجعت ضربت نفس المكان. زميلي إسماعيل استُشهد، وأنا تعالجت أسبوعًا في مستشفى ميداني».
رغم الإصابات والخطر المستمر، عاد إياد للعمل: «لا أستطيع الجلوس في البيت. الناس محتاجة لنا، والجرحى يموتون إذا تأخرنا عنهم. لكن المشكلة ليس فقط في القصف، توجد حواجز عسكرية، في منع مرور، في استهداف مباشر للسيارات».
أكثر ما يؤلمه هو الشعور بالعجز: «أحيانًا نوصل متأخر، نلاقي الطفل مات.. أو الأم نزفت حتى فقدت حياتها. بتحس حالك بتصرخ وبتنزف من جوّا، بس ما في مين يسمع».
كنت مع إياد في أكثر من مهمة صحافية، كنت أشاهده يقود سيارة الإسعاف بسرعة، يحاول أن يسرق الوقت من الموت. لكن حتى الوقت صار عدوًا لنا.
مزارع حتى اللحظة الأخيرة
كان أبو تامر ماضي، من آخر المزارعين الذين ظلوا في أراضيهم إلى اللحظة الأخيرة. يروي القصة وهو يحدّق في صورة له على شاشة هاتف محطّم، يظهر فيها بين أحراش الزيتون: «كنت أزرع الأرض من 30 سنة. كانت تطلع ورد وجوافة وتين، كنا نبيع ونعيش.. لكن آخر مرة رجعت، كانت الأرض محترقة، الآبار مدمّرة، والدبابات ماشية فوق الزرع».
اضطر أبو تامر للهرب مع عائلته بعد أن رأى بعينيه دبابة تسوّي مزرعته بالأرض: «لم يدمّروا الشجر فحسب، بل دفنوا تعب العمر كله. الأرض كانت تطعمني وتطعم أولادي».
في الطريق إلى مكان لجوئه، قُصفت قافلتهم. نجا، لكن حفيده لم ينجُ. يقول، والدمع ينزل على خده بصمت: «دفنّاه على الرصيف، ولم يعرف أحد. رفح صارت مدينة الموت الجماعي، ليست مدينة الناس».
من حلم التخرج إلى الخيام
آمنة طوباسي، 23 عامًا، كانت تستعد لتخرّجها من كلية التمريض في مستشفى الأوروبي في خان يونس قبل الحرب. كانت تعيش في حي المواصي، أحد أجمل أحياء رفح، والمطلّ على البحر.
تقول بصوت واهن: «كنت أفيق الصبح، أروح على الكلية، أرجع على بيتنا، أساعد أمي، أدرس.. الحي كله كان أخضر، مزروع.. كنا نروح نلعب عند البحر، أو نركب دراجاتنا.. أما اليوم؟ المواصي صارت رماد».
بيت آمنة تعرّض لقصف مباشر في تموز/يوليو 2024. توضح: «كنا نيامًا، الساعة الثالثة فجرًا. ما حسّيت بشي إلا وأنا تحت الركام. أختي الصغيرة ماتت.. وأنا ظلّيت بين الأنقاض 6 ساعات قبل ما يطلّعوني».
الآن تعيش في خيمة مؤقتة في مواصي مدينة خان يونس، ولا تفكر بشيء سوى أن تخرج من غزة: «أنا ما بدي أهاجر.. لكن أريد أن أعيش، أعيش، حتى لو بيوم واحد فيه أمان».
في تصريح، قال رئيس بلدية رفح، أحمد الصوفي، إن المدينة أصبحت «غير صالحة للحياة»، مشيرًا إلى أن «90% من البنية التحتية للمدينة دُمّرت كليًا، بما في ذلك 22 بئر مياه رئيسية، وشبكات الصرف، والمستشفيات والمدارس، وكل الطرق الحيوية».
وأضاف الصوفي أن رفح اليوم مصنّفة ضمن ما يسمّى بـ«المنطقة الحمراء»، أي التي لا يمكن إنقاذها حاليًا دون تدخل دولي عاجل، لأن الاحتلال يحاصرها من الجهات الأربع، ولا يسمح بدخول المساعدات أو الطواقم الطبية.
وحذر الصوفي من «كارثة إنسانية شاملة»، قائلاً إن «ما يحدث في رفح اليوم هو عملية تهجير قسري ممنهجة، وجريمة بحق مدينة كانت تمثل الأمل لآلاف النازحين، وأصبحت الآن أكبر مقبرة جماعية في غزة».
«موراغ» الخط الفاصل
يرى الدكتور إياد، المحلل السياسي والاستراتيجي الفلسطيني، أن الاحتلال لم يأتِ إلى رفح للسيطرة المؤقتة، بل لتحقيق هدف استراتيجي بالغ الخطورة.
يقول: «إسرائيل تريد تحويل رفح إلى محور فصل دائم بين غزة ومصر، ومن ثمّ تقطيع أوصال القطاع بشكل نهائي، ولهذا أنشأت ما يسمى بمحور موراغ، نسبة إلى مستوطنة (موراغ) التي كانت ضمن كتلة مستوطنات «غوش قطيف» وانسحبت منها عام 2005 في إطار خطة فك الارتباط».
ويضيف: «هذا المحور يمتد بشكل طولي من الشرق إلى الغرب، على طول الشريط الحدودي، ليشكّل حاجزًا ماديًا وأمنيًا يفصل جنوب القطاع بالكامل عن باقي المناطق. ويوازي هذا المحور ما فعلته إسرائيل في وسط القطاع عبر إنشاء محور نتساريم، الذي قطع غزة إلى شطرين منذ مطلع الحرب».
بحسب الدكتور إياد جودة، فإن الهدف من محور «موراغ» لا يقتصر فقط على العزل الجغرافي، «بل يشمل أيضًا فرض وقائع سياسية على الأرض، تعرقل أي مشروع لربط غزة بمحيطها المصري أو الفلسطيني مستقبلًا». «إسرائيل تحاول تحويل المحور إلى منطقة عازلة عسكرية تحظر دخول المدنيين، وتبني فيها جدارًا أمنيًا مزودًا بكاميرات ورادارات، ليكون بمثابة خط وقف إطلاق نار دائم»، يوضح أبو عامر.
خسر الكثير من أهالي رفح أراضيهم الزراعية في تلك المنطقة بسبب الجرافات التي اجتثت الأشجار ومهدت الطريق للدبابات. والمعلومات والشهادات الكثيرة من هذه المنطقة، تكشف أن الشاحنات الإسرائيلية هناك تعمل على مدار الساعة، على فتح طرق ترابية بين مدينة رفح وخان يونس، ما يعرف بمحور «موراغ» الغربي، وعمليات الاحتلال في هذه المنطقة تجهز كل شيء بدقة. (محور موراغ) ليس شارعًا، هو مشروع استيطاني عسكري متكامل.
ويوضح جودة أن السيطرة على رفح تتيح لإسرائيل الإمساك الكامل بالمعابر، وتعطيل أي إمكانية مستقبلية لإعادة إعمار أو إعادة اتصال غزة بالخارج: «بكلمات أخرى، رفح هي العقدة الأخيرة. إذا سقطت، سقط معها حلم العودة، وسقطت فكرة غزة الموحدة. لهذا، الحرب على رفح هي الأشد، والأكثر وحشية».
أختم شهادتي عن مدينتي رفح: «رفح ليست مدينة فقط، رفح هي الروح. حين تسقط الروح، كل شيء بعد ذلك يصبح ميتاً».-(وكالات)
0 تعليق