قهوة لغة الإشارة.. وقهوة بسعر الذهب!

السبيل 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
محمد محيسن

محمد محيسن

لم تعد القهوة كما وصفها أحدهم: داكنة اللون، صنعت لتدلل الصباح وتمنحه طقوسه الخاصة. لم تعد مستقرة في فنجان أبيض على حافة شباكٍ يحاكي برودة الشتاء بدفئها، وسماوية المطر بعذوبتها. لم تعد دواءً للهوى والحنين كما يراها العاشق، ولا تلك النكهة المتجددة والعادة الصباحية التي نمارسها كل يوم، كمفتاح ليوم جديد.
ولم تعد المقاهي ملاذًا للراحة، ولا ملجأً للطبقة الوسطى التي اختفت هي الأخرى، تمامًا كبقايا الهيل في فناجين القهوة. ولم تعد مكانا لاختزال ذاكرة الطبقة الوسطى، رغم انتشارها على نواصي الشوارع، في الأزقة، وحتى على الطرق السريعة.


في مدينة باتت الإيقاعات فيها أسرع من قدرة البشر على التنفس، أصبح التواصل يمرّ عبر الإشارات، وغابت حميمية المقاهي الشعبية لتحل محلها الإيماءات، وقهوة سريعة خالية من هيل وحكايا الناس.


أما لغة التواصل فقد تطورت، حيث إن صح التعبير بلغة الاشارة، فلم نعد نتحدث كثيرًا.


نظرة حادة، أو إصبع يشير باتجاه “أبو العبد” خلف آلة الإسبريسو، كافية ليعرف أنك تريد: “واحد وسط، من غير قرض بنكي لو سمحت”.


كانت المقاهي يومًا ما مكانًا للألفة، للنقاش، لقراءة الجريدة، نعم، كانت هناك جريدة! أما اليوم، فهي مجرد مراكز لحقن الكافيين السريع في عروق مواطنين ما زالوا يحلمون بفنجانٍ بطعم “أيام زمان”.


ورغم التغيّرات الكثيرة على المجتمع، ما يزال الطابع الذكوري هو الغالب، وإن خفّ بعض الشيء؛ إذ بات من الطبيعي أن ترى فتياتٍ يقفن في طابور يشبه طابور المخابز وقت الأزمة، بانتظار قهوة “ساخنة جدًا – مع تبخير”، تقدَم في أكواب ورقية تحمل شعارات تحفيزية مثل: “ابتسم… ما زلت تقدر تشتري قهوة”.


أصبحت المقاهي الصغيرة منتشرة بالعشرات وفي كل حي، تخدم من فاته الفطور، أو من لم يعد لديه مطبخ أصلًا. سائقو التاكسي، الطلبة، العاطلون، وحتى المديرون الهاربون من الاجتماعات… الجميع يلوّح من بعيد لصاحب كشك القهوة، فيفهم فورًا: قهوة سريعة، بلا كلام، وبدون هيل.


النكهة؟ لا داعي للسؤال. القهوة إمّا محروقة، أو خالية من القهوة أصلًا. ومع ذلك تُشرب، رغم كل شيء، لماذا؟ لأن الناس بحاجة لشيء يدفئ أيديهم الباردة في صباحات الاقتصاد المتجمّد.


رغم كل شيء تبقى تلك المقاهي مجرد محطات مرور سريعة لا أكثر، ونقاط توقف مؤقتة في زمنٍ انكمش فيه الدفء، وتقلّصت فيه التفاصيل، تمامًا كفنجان قهوة فقد الهيل، ونسينا معه الطعم الذي كنا نحبّه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق