في ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة 18 أبريل 2025، كانت مريم نفيعات، السيدة الخمسينية القادمة من بلدة يعبد جنوب جنين، قد حزمت صلاتها في قلبها ومشت صوب القدس. حملت معها أملاً صغيرًا بالوصول إلى المسجد الأقصى، كما اعتادت منذ نحو عام، حين علقت روحها هناك، ثم غادرت دون أن تدخل.
سارت مريم في دروبٍ تعرفها قدمًا قدم. تخطت الحواجز الطارئة والدائمة، تسللت بأملها من بين نظرات الجنود. لم تكن هذه أول مرة تتوجه فيها نحو المدينة المقدسة. لكنها كانت أكثرها مشقة، إذ تزايدت القيود الإسرائيلية على دخول الفلسطينيين من الضفة الغربية للقدس منذ أشهر.
كانت الخطوة الأولى مشوبة بالقلق، فقد انتشرت إشاعات عن منع التصاريح حتى لمن يملكونها، لكنّها تمسكت بالأمل. في الطريق إلى الحاجز، تناهت إلى أذنها قصص نساء عادوا باكين، ورجال مُنعوا لأسباب غير مفهومة. قالت مريم إنها منذ بداية العام الحالي، وهي تحاول كل أسبوع أن تعبر، وغالبًا ما يُرفض طلبها أو تُمنع في اللحظة الأخيرة.
الانتظار المُرّ
وصلت حاجز قلنديا في ساعات صباح اليوم، وهناك اصطفت مع عشرات النساء والرجال من كبار السن. بعضهم جلس على الأرصفة، وبعضهم وقف في صمت، وكلهم ينتظرون أن ينظر جندي إسرائيلي في وجوههم ويقرر إن كانوا يستحقون المرور أو لا.
كان المشهد صعبًا: امرأة مسنّة تغالب دموعها، شاب يحاول إقناع الجنود، طفل يسأل والده لماذا لا نذهب إلى المسجد الأقصى. شعور عام بالإهانة، كأن كل فلسطيني يجب أن يثبت أنه ليس خطرًا، وأن صلاته لا تهدد أمن الاحتلال.
في هذا المشهد، يصبح الانتظار طقسًا بحد ذاته، طقسٌ يعتاد فيه الفلسطيني على فكرة أن الأرض التي وُلد فيها، تُقاس له بالأمتار، وأن الوصول إلى مكان عبادته يحتاج معجزة.
تصاريح لا تفتح الأبواب
«معي تصريح رسمي»، قالت مريم: «أرسلوا لي الموافقة عبر التطبيق الخاص بالدخول للقدس. لكن الجندي قال لي: ارجعي، مش راح تدخلي، وإذا رجعتي راح نطخك». لم يكن تصريح الدخول ضمانًا لعبور الحاجز، بل مجرد ورقة غير مُعترف بها حين تُصدر إسرائيل قرارًا عشوائيًا بالمنع.
المنظومة الرقمية، التي تبدو حديثة ومرتبة، لا تعكس الواقع الفوضوي على الأرض. فحتى بعد الموافقة الرسمية، كثيرًا ما يتم منع الناس من دون تفسير. بعضهم يُطلب منه العودة فجأة، والبعض الآخر يُترك في الانتظار حتى ييأس.
وتقول منظمات حقوقية إن النظام الإلكتروني ليس إلا أداة إضافية للسيطرة، تسمح للاحتلال بتتبع كل حركة، وتُضفي شرعية مزعومة على قرارات تعسفية.
جمعة الأبواب المغلقة
المشهد عند حاجز قلنديا لم يكن مشهد انتظار عابر، بل أشبه بوقوف على حافة اليأس. نساء يبكين، أطفال يسألون، وشباب يتجادلون مع الجنود قبل أن ينسحبوا محبطين. بدا وكأن المدينة المقدسة باتت حلمًا مؤجلاً، حتى على أولئك الذين اعتادوا زيارتها قبل كل صلاة.
يقول عبدالرؤوف بدارنة أحد الشبان المتواجدين على الحاجز: «منذ بداية هذا العام، لم أستطع دخول القدس إلى المسجد الأقصى إلا مرة واحدة. كل جمعة نأتي ونُمنع». الحضور أمام الحواجز بات أيضًا شكلًا من أشكال المقاومة، كأن الجسد الفلسطيني نفسه أصبح أداة احتجاج.
أما كبار السن، فبعضهم قال إنه يصلي عند الحاجز، وهناك، على الإسفلت وتحت أعين الجنود، تُقام صلاة خارج المكان المقدس، لكنها لا تقل عنه روحًا وصدقًا.
أحلام تُنهى على الحواجز
عبد الرحمن شديد، رجل في بداية الستينات من عمره، من قرية بيتا جنوب نابلس، كان ينتظر الدخول منذ الفجر. لم يكن يحمل تصريحًا، لكنه جاء على أمل أن يسمح له العمر والمظهر بالدخول.
«هم يعرفون أننا لسنا خطرًا عليهم. نحن فقط نريد أن نصلي. المسجد أقرب من قرانا، لكنهم يجعلونه أبعد من البحر». وجهه الذي تغزوه التجاعيد لم يشفع له أمام جنود مدججين بالسلاح.
يحكي عبد الرحمن أنه كان يأتي إلى القدس كل أسبوع قبل عام 2023، لكن في الآونة الأخيرة، أصبحت الرحلة محفوفة بالمخاطر. وقال لـ«عُمان»: «اليوم أنا هنا فقط لأجرب حظي، وإن لم أدخل، فأنا على الأقل حاولت».
بجانب طابور الانتظار، كانت البسطات تنتشر بتواضع. شاب في منتصف العشرينات اسمه حمزة دويكات، يبيع الكعك والمشروبات الساخنة.
«معظم الناس بترجع. لكننا نبقى هنا، لأن بعضهم يحتاج أن يأكل شيئًا قبل الرجوع»، قال حمزة وهو يعد النقود الورقية القليلة بين يديه. وجوده هنا، كما يصفه، ليس فقط لكسب لقمة العيش، بل تعبير عن تمسكه بالقدس.
أوضح أن الحاجز بات سوقًا أيضًا، وأنه يرى نفس الوجوه أسبوعًا بعد أسبوع: «حتى في الحزن، هناك شيء من التواصل. نُسلّم على بعض، نواسينا، ونحاول أن نمنح الناس لحظة دفء وسط هذا البرود العسكري الإسرائيلي».
من يدخل ومن يُمنع؟
بحسب تقديرات دائرة الأوقاف الإسلامية، فإن نحو 30 ألف مصلٍ تمكنوا من دخول المسجد الأقصى وأداء صلاة الجمعة هذا الأسبوع. غالبيتهم من سكان القدس أو من أراضي 48، بينما حُرم آلاف آخرون من أبناء الضفة الغربية من الوصول، بسبب تشديدات الاحتلال.
ينتقد مدير عام دائر الأوقاف الإسلامية بالقدس، هذا «التمييز واضح»، قائلًا في تصريح لـ«عُمان»: «من يحمل هوية مقدسية يدخل بسهولة نسبيًا، أما من جاء من الخليل أو نابلس، فغالبًا يُعاد أدراجه، بغض النظر عن وضعه القانوني أو سلوكه الشخصي».
تكنولوجيا السيطرة
التصاريح تصدر عبر تطبيقات إلكترونية أنشأتها إسرائيل ضمن منظومة «منسق أعمال الحكومة». يتقدم المواطنون بالطلب، وغالبًا لا يأتيهم رد، أو يصلهم رفض لأسباب غير مفسّرة. وأحيانًا يصل الرد بالموافقة، ثم يُمنعون عند الحاجز دون مبرر، ما يجعل الفلسطينيين عالقين بين وعد التكنولوجيا وواقع الاحتلال.
بعض المحامين الفلسطينيين وصفوا هذه الإجراءات بأنها «شَرعنة للحرمان»، إذ يتم رفض الطلبات دون أي مسوغ قانوني أو أمني. وتحوّلت التكنولوجيا إلى غطاء يستخدمه الاحتلال لتبرير سياساته.
ورغم الجدران، ورغم البنادق، لا تزال مريم نفيعات تنوي العودة كل جمعة. تقول إنها تشعر أن القدس تناديها، وإن الطريق إليها يستحق كل عناء، «حتى لو منّعوني ألف مرة، رح أرجع ألف مرة. القدس مش بس مكان، هي قلبي اللي عم بدقّ».
أمثال مريم كُثر، يصرّون على المجيء رغم كل شيء، يكتبون بأقدامهم صلاةً لا يمكن منعها. لأن للقدس في القلب مقامًا، لا تقدر عليه بنادق الاحتلال ولا حواجزه الإلكترونية.
0 تعليق