جيل الاستحقاق .. المعاملة بالمثل

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

إلى عهد قريب شكلت الثيمة الاجتماعية فـي مختلف المجتمعات التقليدية؛ مناخا آمنا للاستقرار، والاطمئنان، وما يتبع ذلك من التعاون والتكافل، والتوافق فـي المواقف؛ على الأقل؛ ولو للحظة آنية، أو لمناسبة طارئة، أو معد لها سابقا، وتناسلت هذه الصورة فـي كثير من المجتمعات التقليدية ــ على وجه الخصوص ــ مع ما تشهده من خروقات سلوكية يقوم بها بعض الأفراد، وعد ذلك سلوكا شاذا فـي مرحلته الآنية، ولأنه كذلك تتكاتف ضده مجموعة من المحفزات الاجتماعية للوقوف ضده، كروابط النسب، والمصالح الاجتماعية المشتركة التي تمثلها المناسبات، أو الحاجة فـي المجتمع القروي الواحد.

ولأن القرى تتشابه فـي ظروفها إلى درجة التطابق، ظلت هذه الصورة مخيمة على المشهد العام، واعتاده الناس فـي مختلف قراهم، وعدّ من يخرج عن هذا النسق الاجتماعي على أنه شاذ السلوك، ناكر للمعروف، ضارب بأخلاق المجتمع عرض الحائط، وردة الفعل تكون يجب عدم السكوت عنه، ولا يستبعد أن يعقد أبناء المجتمع اجتماعا للتشاور عن ما اقترفه هذا الابن فـي القرية من سلوك غير مرحب به، للخوف الكبير من شق عصا الطاعة على الجميع، ولذلك كان من المعتاد جدا أن يؤدب الكبير أي صغير؛ حتى وإن لم يكن ولده؛ شذ فـي سلوكه عن العرف العام، حيث يعتبر أبناء القرية أبناء كل أب فـي القرية، ولا يثير إجراء قام به رجل فـي المجتمع القروي ضد طفل أو شاب أتى بسلوك غير مقبول، وقد أعطيت معلم مدرسة القرآن اليد الطولى فـي هذا الشأن، ولن تكون هناك أية مراجعة من قبل ولي أمر أي طالب لديه عندما يعزره المعلم لسلوك غير سوي قام به، فالجميع يدرك أن ما يقوم به معلم القرآن هو فـي صالح هذا الولد المتعلم.

تغير الوضع الآن، مع دخول «اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺣﻘﺒﺔ ﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺪاﺛﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﺰاﻳﺪ ﺑﺎﻟﺰﻳﻒ، وﻋﺪم اﻟﺼﺪق، وﻣﺤﺎﻛﺎة اﻟﻮاقع»- كما يعلل البعض - وفـي محاكاة الواقع الكثير من التزييف، والخروج غير الآمن عن الحقيقة، وذلك لأنها تؤدلج الحياة الحقيقية إلى حياة افتراضية، فيقنع العقل الباطني بأن الحياة هكذا، ولا داعي لأن تكون حقيقة مادية ملموسة، قد يتم ذلك عبر الأجهزة التقنية الحديثة التي يعقد معها الصغار صفقة رابحة من طول الزمن المستقطع من حياتهم العادية اليومية، مع خطورة هذا الاحتواء التقني للناشئة، والخطورة تكمن ليس فقط فـي ابتعاد هذا الطفل عن الواقع الحقيقي الذي يعيشه من حوله، ولكن فـي مجموعة البرامج التي تعرض فـي هذه الأجهزة، وهي جلها قائمة على المنافسة، وعلى ثقافة الاستحقاق، والمعاملة بالمثل، وليس على التضحية، والتعاون، والتوافق كما يفترض على الواقع، مع ما يرافق ذلك من مشاهد العنف القاسي الذي تدمن عليه الأنفس، فتمارسه على الواقع من دون مبرر فـي أحايين كثيرة.

ونتيجة لذلك تظهر اليوم شكاوى كثيرة من قبل كبار السن من المربين، والمنظرين، والساعين إلى الرجاء بوجود مجتمع يكون فـيه أفراده؛ أكثر تعاونا، وأكثر ترابطا، وأكثر توافقا، هذه الشكاوى تشي كلها إلى نشأة جيل يُحَيِّدُ هذه القيم المثالية جانبا، ويسعى إلى استبدالها بقيم أخرى قائمة على المقابل، وعلى الأحقية، وعلى الشعور أن الفرد قد أدى ما عليه، وعلى الطرف الآخر أن يرد الدين، وأن مسألة التضحية لأجل خاطر الآخر، مسألة فوضوية يجب أن تحاط بقيمة مادية ملموسة، وأن المثالية التي يروج لها هي نوع من التفريط فـي الحقوق، حتى وإن شعر الذي ينادي بذلك أن الواجب الذي عليه لم يكتمل باستحقاقاته الواجبة، وبالتالي فعلى الطرف الآخر أن يدفع.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق