ترامب وعصر القومية الجديد: مزيج خطر على أميركا والعالم

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

مايكل برينس؛ وفان جاكسون* - (الإندبندنت) 13/3/2025

أسهمت الولايات المتحدة، تحت إدارتي ترامب وبايدن، في صعود التوجه القومي عالمياً، وركزت على التنافس بين القوى العظمى على حساب التعاون الدولي. هذا التحول، الذي بدأ مع الأزمة المالية في العام 2008، أدى إلى اعتماد الحمائية وتضييق الحدود، مما قوض جهود حل المشكلات العالمية الملحة، مثل تغير المناخ وعدم المساواة. ويقوض مثل هذا التوجه التحالفات ويعمق الانقسامات العالمية، وهو ما يستوجب من واشنطن تبني رؤية أممية أكثر تعاونية.اضافة اعلان
*   *   *
مثلما حصل في العام 2016، دفعت رئاسة ترامب المعلقين في واشنطن وخارجها إلى التفكير في الوجهة التي ستسلكها السياسة الخارجية الأميركية. وتكثر الأسئلة في هذا السياق بشأن الطريقة التي سيتعامل بها ترامب مع الصين وروسيا -وأيضاً مع الهند والقوى الصاعدة في الجنوب العالمي. فالسياسة الخارجية الأميركية تتجه نحو فترة من عدم اليقين، حتى لو مثلت رئاسة ترامب الأولى نموذجاً مرجعياً لكيفية إدارته لدور الولايات المتحدة في العالم خلال السنوات المقبلة.
كرست عودة ترامب إلى البيت الأبيض موقعه في التاريخ كشخصية تغييرية. وكان الرئيسان فرانكلن روزفلت ورونالد ريغان قد شكلا "حقبتين" مختلفتين في التاريخ الأميركي، حيث أعادا تعريف دور الحكومة في حياة الأميركيين، وأعادا تصميم السياسة الخارجية الأميركية بطرق مستدامة. وأعلنت رئاسة روزفلت، التي ولدت نظاماً دولياً متعدد الأطراف تقوده الولايات المتحدة، عن بزوغ "العصر الأميركي". أما ريغان، فقد سعى إلى تعظيم القوة العسكرية والاقتصادية الأميركية إلى أقصى حد، وحملت رئاسته راية "السلام باستخدام القوة". وتأرجحت الإدارات الأميركية بعد الحرب الباردة بين هاتين الرؤيتين، معتمدة في الغالب عناصر من كليهما. ويرث ترامب بقايا هاتين الحقبتين، إلا أنه يمثل أيضاً حقبة جديدة: حقبة القومية.
يحجب الدافع التقليدي لواشنطن في تقسيم العالم إلى أنظمة ديمقراطية وأخرى استبدادية، تحولاً عالمياً نحو القومية كان قد بدأ مع الأزمة المالية في العام 2008، التي أدت إلى اعتماد الحمائية وتشديد ضبط الحدود، وإلى تقلص النمو في أجزاء كثيرة من العالم. وفي الواقع، أصبحت عودة القومية -تحديداً القومية الاقتصادية والقومية العرقية- تسم الشؤون العالمية منذ منتصف العام 2010، حين شهد العالم تزايد شعبية شخصيات قومية، منها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وزعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبن، وصولاً إلى دونالد ترامب نفسه.
وبدلًا من التشكيك في هذا العصر الجديد للقومية وتحديه، قامت واشنطن بالمساهمة فيه. فقد انشغلت الولايات المتحدة، خلال إدارتي ترامب وبايدن، بمسألتي تعزيز القوة الأميركية وتقييد التقدم الصيني. وبدلاً من إعطاء الأولوية لجهود تأمين فرص العمل أو تحقيق النمو الاقتصادي عالمياً، قامت واشنطن بفرض تعريفات جمركية وضوابط على الصادرات بغية إضعاف القوة الاقتصادية الصينية أمام الولايات المتحدة. وأفسح الانتقال العالمي نحو اعتماد الطاقة الخضراء لمعالجة جذور أزمة المناخ المجال لمحاولة عابرة وخلافية من الناحية السياسية لتوسيع عمليات إنتاج السيارات الكهربائية في الولايات المتحدة. وحلت مرونة سلاسل التوريد محل الاعتماد الاقتصادي المتبادل، حيث تم استبدال منطق "المد المتصاعد الذي يرفع جميع القوارب" بسباق للمطالبة بحصة أكبر من كعكة اقتصادية عالمية متضائلة. ومن خلال الفشل في رؤية عدم الاستقرار والعنف وضائقة الديون في دول الجنوب العالمي كقضايا مرتبطة بمشكلات الدول ذات الدخول الأعلى، تسهم الولايات المتحدة في مفاقمة انتشار القومية في العالم.
ويمكن فهم هذه الحقبة القومية الجديدة على ضوء السباق أو "التنافس بين القوى العظمى" -التعبير الغامض الذي يؤطر الاستراتيجية الأميركية الكبرى تجاه الصين. غير أن هذا التنافس بين القوى العظمى يعوق احتمال أن تقوم الولايات المتحدة ببناء حقبة دولية جديدة وفق تقليد روزفلت بعد الحرب العالمية الثانية. كما أن التنافس المذكور يبقي وضعاً راهناً عفا عليه الزمن يستند إلى تصدر أميركي لم يعد موجوداً، ويحد المخيلة السياسية المطلوبة لتوليد عالم أكثر سلماً واستقراراً. وقد كلف هذا الانشغال المستمر منذ 10 أعوام بتنافس القوى العظمى الولايات المتحدة وقتاً وزخماً ثمينين لبناء نظام دولي جديد، بطرق تحد من الصراعات وتحفز الدول على رفض نفوذ بكين العسكري والاقتصادي.
من المؤكد أن بكين تشكل تهديداً للديمقراطيات وحقوق الإنسان والأمن السيبراني في جميع أنحاء العالم. بيد أن النظر إلى هذه التهديدات من منظور التنافس بين القوى العظمى دفع بعض المراقبين إلى تقديم الصين على أنها خطر وجودي يوازي خطر الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة. وقد أدت هذه المقاربة العدائية ذات المحصلة الصفرية تجاه بكين إلى مفاقمة أخطار الحقبة القومية الجديدة.
إذا أراد صانعو السياسات في واشنطن تنشيط دور الولايات المتحدة في العالم والإسهام في إحلال السلام والاستقرار في البلدان التي تعاني من انتهاكات لحقوق الإنسان ومن عدم المساواة والقمع، فإن عليهم توسيع آفاقهم وتجنب تأثير عصر القومية. لن تُحل المشكلات الملحة لتغير المناخ والتراجع الديمقراطي وانعدام المساواة في الاقتصاد، والمستويات غير المستدامة في الديون السيادية، عبر تعزيز قوة الولايات المتحدة على حساب العالم الأوسع وبقية الدول.
انبعاث القومية
عندما تمكنت الولايات المتحدة وحلفاؤها من إلحاق الهزيمة بقوى المحور في العام 1945، أدرك القادة الأميركيون أن النظام الإمبراطوري القديم لم يعد يخدم مصالح السلام العالمي. وأثبتت "عصبة الأمم"، في السياق، ضعفها حين انتقلت القوى العظمى في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي إلى اعتماد الاستقلال الذاتي والحمائية (الاقتصادية)، مما أثار الدعاوى القومية التي قادت الأنظمة الاستبدادية في ألمانيا وإيطاليا واليابان إلى الحرب.
وقد تخوف روزفلت في العام 1945 من أن يقوم كل طرف من الحلفاء بعد توقف المدافع، بالسعي إلى حماية مصالح كل منهم على حدة، من خلال الانطواء والتركيز على القضايا الوطنية، مثلما فعلوا في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وقال روزفلت، في خطابه عن "حالة الاتحاد" في ذلك العام، إن على الولايات المتحدة العمل من أجل "إقامة نظام دولي قادر على صون السلام والوصول إلى عدالة أكثر اكتمالاً بين الأمم مع مرور الأعوام". وهذا النظام الجديد، وفق نظرة روزفلت، يجب أن يعتمد على المؤسسات متعددة الأطراف التي جندت القوة الاقتصادية والعسكرية الأميركية لمصلحة الشركاء الدوليين، الذين تطلعوا إلى الأمن والازدهار في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
وحدد روزفلت المصلحة الوطنية بمقاييس دولية -عبر الحفاظ على نظام متعدد الأطراف يجعل العالم آمناً للرأسمالية والليبرالية الديمقراطية. وعلى الرغم من بقاء أجزاء كبيرة من عالم ما بعد الاستعمار في حالة من التخلف، وعمل المؤسسات الدولية متعددة الأطراف على نحو غير متوازن لمصلحة الدول الأغنى، فقد بقي هناك مجال للاقتصادات المتجددة غير الشيوعية في آسيا وأفريقيا لتأكيد مصالحها في ظل نظام ما بعد الحرب. وفي العام 1948، أسهم "الاتفاق العام على التعريفات الجمركية والتجارة" في إلغاء الحواجز التجارية، مما عزز الاقتصاد الياباني. وخلال العام 1964، قامت البلدان التي تخلصت من الاستعمار بتنظيم نفسها داخل "الأمم المتحدة" ضمن مجموعة أطلقت على نفسها اسم "جي 77"، مع تركيز خاص على مواجهة تجاهل الغرب وإهماله للأمم الأفريقية والآسيوية. واليوم، تواصل دول الجنوب العالمي اللجوء إلى الأمم المتحدة لتحقيق العدالة المناخية وتطبيق القانون الدولي ومحاسبة الشركات الخاصة على انتهاك قوانين العمل والبيئة.
عندما انتهت الحرب الباردة في العام 1991، قامت الولايات المتحدة بتهميش المؤسسات الدولية في سياق سعيها إلى تحقيق التفوق في حقبة القطب الواحد. ومع هزيمة الاتحاد السوفياتي، بدا أنه ما من بديل قابل للتطبيق للنظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، غدت المؤسسات متعددة الأطراف ملحقات بالقوة الأميركية، بينما افترضت الولايات المتحدة وأوروبا أن المثل الديمقراطية الليبرالية ستزدهر في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في روسيا والصين. لكن "الحرب على الإرهاب" بعد العام 2001 أدت إلى تآكل النزعة الدولية، حيث استخدمت الولايات المتحدة تفوقها لإكراه الدول وحملها على التملق وجرها للانضمام إلى حملاتها العسكرية، مع القليل من الاعتبار للأضرار التي يمكن أن تلحقها تصرفات واشنطن بعلاقات الولايات المتحدة مع العالم غير الغربي.
ثم جاءت الأزمة المالية للعام 2008، وقامت الولايات المتحدة، أمام ركود النمو العالمي، بتقديم عمليات إنقاذ وحماية مصرفية للعملاء والمستهلكين بغية تحقيق الاستقرار في الأسواق الأميركية، وأطلقت الصين، في المقابل، مشروعاً ضخماً للبنية التحتية لتشغيل قواها العاملة والحفاظ على معدلات نموها. غير أن دول العالم خرجت في معظمها من الركود العظيم عبر مراكمة مستويات غير مستدامة من الديون السيادية. وفيما قام كل من "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" بفرض شروط على المقترضين لا تتمتع بشعبية سياسية، لجأت الحكومات في الاقتصادات النامية إلى بكين كمقرض مفضل.
هذه الظروف -المتمثلة في نظام اقتصادي متقلب وغير متكافئ- خلقت فرصاً للسياسات القومية والسياسيين القوميين، إذ حين فشلت العولمة في تحقيق المكاسب نفسها التي حققتها في التسعينيات، قام الديماغوجيون بإلقاء اللوم على المهاجرين غير الشرعيين وأفراد النخب الذين ترأسوا نظاماً فاسداً وغير عادل. وترسخت القومية الاقتصادية في عدد من البلدان. وتصاعد الخطاب الشعبوي خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ودعا القادة شعوبهم إلى البحث عن حلول للمشكلات العالمية ضمن حدودهم الوطنية، وليس خارجها. ووصلت شخصيات، مثل أوربان، إلى السلطة عبر انتقاد "صندوق النقد الدولي" والاتحاد الأوروبي. وفي العام 2017، ادعى أوربان أن "التهديد الأساسي لمستقبل أوروبا لا يأتي من أولئك الذين يريدون القدوم إلى هنا للعيش، بل هو نخبنا السياسية والاقتصادية والثقافية المصممة على تحويل وجهة أوروبا إلى ما يعاكس الإرادة الواضحة للأوروبيين". وانتشر الخطاب المعادي للهجرة على نحو واسع، فراح زعماء في أنحاء مختلفة من العالم يلقون باللوم في مشكلات بلدانهم على المهاجرين.
واتجهت الحكومات في العالم نحو سياسة صناعية ورأسمالية موجهة من الدولة لحماية اقتصاداتها من العولمة، وهو توجه قادته الصين وتسلكه اليوم الولايات المتحدة مع إجراءات مثل "قانون خفض التضخم" و"قانون الشرائح الذكية والعلوم". وفي روسيا، اعتنق الزعيم الاستبدادي فلاديمير بوتين أيديولوجية إمبريالية قومية، معززاً الموارد الاقتصادية لحكمه عبر توسعية الدولة، بينما أدى غزو موسكو لأوكرانيا في العام 2022 إلى ضرب القاعدة العالمية المناهضة لغزو أراضي الدول. وفي غضون ذلك، قام رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الذي كان سابقاً من أنصار الأسواق الحرة بترؤس حقبة جديدة من رأسمالية الدولة، حيث قام بمركزة القطاع المصرفي وممارسة سيطرة الدولة على الاستثمار الأجنبي. أما دول الشرق الأوسط، وفي سياق جهودها لدرء هيمنة الولايات المتحدة، فتتطلع الآن إلى الصين كنموذج لعقد الشراكة -وربما المحاكاة. ويمثل عصر تنافس القوى العظمى عصر الدول - الأمم التي تعزز قوة النخبة الاقتصادية بانتهاج سياسات قومية.
حرب باردة جديدة
خلال رئاسته الأولى، ركب ترامب موجة انبعاث القومية والسباق بين القوى العظمى واستفاد منهما، وفي حين قلل الرئيس باراك أوباما من أهمية التنافس بين القوى العظمى على أساس الاعتقاد أن التعاون مع بكين خدم المصالح الاقتصادية الأميركية، قامت استراتيجية ترامب للأمن القومي في العام 2017 بتبني مبدأ "أميركا أولاً" في السياسة الخارجية، وهو المبدأ الذي قدم ازدهار الولايات المتحدة على فكرة المصلحة الدولية وخير العالم. ووفق ما أعلنت إدارته، فإن الولايات المتحدة "ستنافس وتتصدر في المنظمات متعددة الأطراف بغية حماية المصالح والمبادئ الأميركية". وترجم ذلك بانسحاب الولايات المتحدة، ولو مؤقتاً، من منظمات، مثل "مجلس حقوق الإنسان" و"اليونيسكو" في الأمم المتحدة، وهي منظمات تعزز التعاون الدولي في مجالات التعليم والعلوم، والعديد غيرها. كذلك انسحب ترامب من "معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى" -وهي معاهدة وقعت في عهد رونالد ريغان مع موسكو تهدف للحد من الأسلحة النووية- ومن "اتفاق باريس"، الاتفاق الدولي الهادف إلى تقليص انبعاث غازات الاحتباس الحراري. وأدى التركيز على فكرة تنافس القوى العظمى أيضاً إلى قيام ترامب بفرض رسوم جمركية على الواردات الصينية بقيمة 200 مليار دولار، مطلقاً حرباً تجارية صعدت التوترات بين واشنطن وبكين وزادت كلفة المعيشة على المستهلكين الأميركيين بنسبة تصل، في أجزاء من البلاد، إلى 7.1 في المائة.
كان الرئيس بايدن قد وعد بالابتعاد عن فكرة "أميركا أولاً"، لكنه عاد في نهاية المطاف واستسلم أيضاً لعصر القومية. في مطلع العام 2021، تعهد بايدن بـ"البدء في إصلاح تقاليد وعادات التعاون وإعادة تدعيم التحالفات الديمقراطية التي ضمرت خلال الأعوام القليلة الماضية بفعل الإهمال"، بيد أن ذلك الخطاب الذي جاء به بايدن فشل في التحول إلى تعاون خارج إطار "تنافس القوى العظمى". وبغية الحفاظ على القوة التنافسية للولايات المتحدة إزاء الصين، توسع بايدن في سياسات ترامب الحمائية. وعلى الرغم من افتراق الرئيس بايدن عن ترامب من خلال تركيزه على التحالفات والشراكات، إلا أنه رأى، مثل ترامب، أن الغرض الأساسي من سياسات الدولة الأميركية الاقتصادية يتمثل بتقييد قوة الصين، وبتعظيم قوة الولايات المتحدة في المقابل. وكما جادل المؤرخ آدم توز في مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس" في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، فقد سعى بايدن إلى "ضمان اعتماد أيي وسيلة ممكنة، بما في ذلك التدخلات المتشددة في الأعمال التجارية الخاصة والقرارات الاستثمارية، من أجل كبح جماح الصين واحتفاظ الولايات المتحدة بتقدمها الحاسم".
ولهذه الغاية، قام بايدن، وعلى نحو دراماتيكي، بتعزيز "هيئة الاستثمار الأجنبي" في الولايات المتحدة، التي تراقب وتقيد الاستثمارات الأجنبية لأسباب تتعلق بالأمن القومي. وقام بزيادة عدد الشركات الصينية المدرجة في القائمة السوداء لارتباطها بالجيش الصيني، وحافظ على التعريفات الجمركية الأولى التي أعلنها ترامب مستهدفة الصين. وفرض تعريفات جمركية جديدة على تكنولوجيا أشباه الموصلات والطاقة المتجددة الصينية، مطبقاً قيوداً جديدة على الاستثمار الصيني في الولايات المتحدة، ومؤمناً إعفاءات ضريبية جديدة لشركات التكنولوجيا الأميركية بشرط سحب استثماراتها من الشركات الصينية. وما سماه بداية جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، بنهج "الساحة الصغيرة والسياج العالي" أصبح استراتيجية اقتصادية هدفها احتواء الصين وحل الترابط الأميركي - الصيني في قطاعات التكنولوجيا المتطورة بالاقتصاد الدولي.
أدى التحول القومي في السياسة الخارجية الأميركية، خلال عهد بايدن، إلى تمكين الشركات ذاتها التي أسهمت في تعميق حالة عدم المساواة المؤججة للقومية. وضمن الإطار القومي الناشئ في واشنطن، استفادت أعمال شركة "تسلا" في الصين من الرسوم الجمركية على السيارات الكهربائية، ليس فقط لتمتعها بمركز مهيمن في سوق السيارات الكهربائية بالولايات المتحدة، بل أيضاً لأن رئيسها التنفيذي، إيلون ماسك، حصل على إعفاء من الرسوم الجمركية الأوروبية على سيارات "تسلا" الكهربائية المصنعة في الصين (تسعة في المائة بدلاً من 20 في المائة). وأدت هذه الرسوم نفسها في الوقت عينه إلى معاقبة المستهلكين وحرمان صناعيي التكنولوجيا الخضراء في الولايات المتحدة من التعاون الذي تشتد الحاجة إليه مع الشركات الصينية. وقامت الشركات الناشئة العاملة في مجال الدفاع في "وادي السيليكون" وشركات رأس المال الاستثماري باستثمار عشرات مليارات الدولارات في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي تسعى هذه الشركات الآن إلى بيعها للبنتاغون؛ المشتري الوحيد لمنتجاتها.
مثلت إشارات بايدن في البداية إلى منهج التعددية ابتعاداً ملحوظاً عن النهج القومي المتحمس لإدارة ترامب الأولى، لكن تلك الإشارات فشلت في تحقيق صيغة دولية أو أممية حقيقية. كما أن جهود بايدن لبناء التحالفات لم تعكس بداية حقبة متعددة الأقطاب، بل عكست صراعاً أيديولوجياً بين الديمقراطية والاستبداد في سياق حرب باردة جديدة في مواجهة الصين. وتقدم "الشراكة الأطلسية"، صيغة التحالف المنعقدة في فترة بايدن بين الأمم المشاطئة للأطلسي، مثالاً معبراً في هذا السياق. فعلى الرغم من تصميمها ظاهرياً على مواجهة تغير المناخ في البلدان المشاطئة للمحيط الأطلسي، مثلت في نهاية المطاف محاولة لتقييد أنشطة الصيد البحري الصيني غير القانونية، وإغراء الدول الأفريقية للابتعاد عن بكين.
يشكل هذا العصر الجديد من القومية عصراً عقابياً للبلدان ذات الدخل المنخفض، لأنه يحد من الفرص التي تقوم الولايات المتحدة من خلالها بتأسيس الروابط حسنة النية والولاءات مع الأمم الأفريقية والآسيوية. وكان ترامب في هذا الإطار، حتى قبل توليه منصبه، وفي محاولة لتعزيز تفوق الدولار، قد استهدف دول "بريكس" (التي تشكل أكثر من 40 في المائة من سكان العالم) بتعريفات على العملة. وتعِد الإجراءات من هذا النوع بفصل الولايات المتحدة عن سلاسل الإمداد العالمية، كما تزيد من كلفة الاستهلاك بالنسبة للمستهلكين الأميركيين. وقد يفيد اعتماد سياسة الإكراه للحفاظ على صدارة الدولار الأميركي "وول ستريت"، لكنه أيضاً يضخم العجز التجاري الأميركي ويقوض قطاعات التصدير الأميركية عبر رفع السعر النسبي للسلع المصنوعة في الولايات المتحدة في الأسواق الخارجية.
أخيراً، قامت واشنطن أحياناً بتقويض تحالفاتها عبر رفض المؤسسات الدولية حين لا تخدم هذه المؤسسات المصالح الوطنية الأميركية. وتستمر الولايات المتحدة في تفردها، مقوضة المعاهدات الدولية التي ترفض الالتزام بها كلياً، مثل "معاهدة الذخائر العنقودية" (التي وقع عليها 111 بلداً)؛ و"اتفاق حظر الألغام المضادة للأفراد" (التي وقع عليها 164 بلداً من ضمنها الولايات المتحدة)، وذلك عبر إرسالها كلا من الذخائر العنقودية والألغام المضادة للأفراد إلى أوكرانيا. كما عمل كل من ترامب وبايدن على تقويض سلطة وفعالية "منظمة التجارة العالمية"، ورفضا آلية تسوية المنازعات التي تعتمدها، وعرقلا تعيينات قضاة استئناف جدد فيها، وتجاهلا شكاوى رفعت أمامها بسبب مخالفات عديدة في السياسات الصناعية الأميركية، بما في ذلك التعريفات الباهظة وتدابير إعانة الشركات لكبح النمو الاقتصادي الصيني والهندي. وخلال تشرين الثاني (نوفمبر)، أصدر بايدن بياناً من البيت الأبيض رفض فيه شرعية "المحكمة الجنائية الدولية" في معالجة مختلف الأمور المتعلقة بالحرب التي تشنها الحكومة الإسرائيلية في قطاع غزة.
التعاون قبل التنافس
من المرجح، ولسوء الحظ، أن يعيد ترامب تنشيط وتفعيل السياسة الخارجية ذات النفس القومي. وإدارته مستعدة للنظر إلى أزمة الشرق الأوسط على أنها صراع حضاري ينبغي التعامل معه عبر القوة العسكرية بدلاً من الدبلوماسية. وسوف تلعب التحالفات في شرق آسيا دور أذرع مفيدة لتقييد نفوذ بكين. وسوف تعتبر واشنطن المنافسة مع الصين صراعاً وجودياً يصعد المشاعر المعادية للمهاجرين داخل الولايات المتحدة، مما قد يؤدي إلى وقوع جرائم كراهية وعنف أكبر تجاه الآسيويين الأميركيين، مثلما حصل خلال رئاسة ترامب الأولى. وبالنسبة لأميركا اللاتينية، سيظل ترامب عالقاً في رؤيته قصيرة النظر المتمثلة في تشديد الرقابة على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، مفوتاً فرص التعاون في قضايا ذات اهتمام مشترك، مثل الجريمة العابرة للحدود ومسألة تغير المناخ.
ولكن، إذا أرادت الولايات المتحدة معالجة مشكلات العالم بطرق مختلفة وهادفة، فإن على الاستراتيجية الأميركية الكبرى الافتراق عن عصر القومية. وتشكل الرؤية الأممية الأوسع التي تعمل على تحسين الظروف في الجنوب العالمي، الذي يمثل غالبية العالم، ركيزة أفضل بكثير للنظام العالمي مما يمثله السباق مع الصين، الذي لن يفيد سوى القلة. وبدلاً من معاملة الأمم والدول الأفريقية والآسيوية كبيادق في المنافسة مع بكين، على واشنطن أن تفهم أن تهميش البلدان ذات الدخل المنخفض يمنع النمو الذي يمكن أن يعزز مصالح الولايات المتحدة وحلفائها. وعبر العمل والتعاون مع "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي"، يمكن للولايات المتحدة أن تخفف من عبء الديون على الدول الأفريقية، وإعادة هيكلة الاقتصادات المتعثرة بغية التقليل من الفساد إلى أدنى حد وتعزيز الحقوق الديمقراطية. وبدلا من السماح لمجموعة "بريكس" بأن تكون في موقع مواجه للغرب، على واشنطن الاعتراف بصحة مخاوف دول هذه المجموعة والترحيب بمقاربات جديدة تعطي الأولوية للأمم الأفريقية والآسيوية. إن جنوباً عالمياً أقوى سيسهم أيضاً في كبح جماح النزعات القومية العرقية والسياسات المناهضة للمهاجرين، لأن الاقتصادات المرنة تجعل من الأصعب تبني الشعارات القائلة إن المهاجرين "يسرقون" الأعمال والوظائف ويستنزفون موارد الدولة.
لقد آن الأوان للولايات المتحدة كي تتجاوز منطق "المحصلة الصفرية" المتقادم الذي يحكم فكرة "تنافس القوى العظمى". وبدلاً من تبديد مزيد من الموارد في السعي العقيم إلى تحقيق الأسبقية، على واشنطن تجديد التزامها بتعزيز الاقتصادات والنهوض بحقوق الإنسان في العالم. إن المصلحة الوطنية لا تكمن في التفوق على الصين في كل مجال، بل في رؤية أممية تعطي الأولوية للتعاون على المنافسة.

*مايكل برينس: مدير مشارك لبرنامج برادي جونسون للاستراتيجيات الكبرى ومحاضر في التاريخ بجامعة ييل. فان جاكسون: محاضر بارز في العلاقات الدولية بجامعة فيكتوريا في ويلنغتون. شارك الكاتبان في تأليف كتاب "خطر التنافس: كيف تهدد منافسة القوى العظمى السلام وتضعف الديمقراطية" The Rivalry Peril: How Great-Power Competition Threatens Peace and Weakens Democracy. المقال مترجم عن "فورين أفيرز"، حيث نشر في 28 كانون الثاني (يناير) 2025.  

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق