السبت 19/أبريل/2025 - 03:09 م
قبل أكثر من شهر، وبتاريخ 15 مارس 2025، كتبت فى هذا المكان نفسه مقالا بعنوان "لا لنزع سلاح المقاومة"، كانت المناسبة وقتها ما جرى من اتصال وحيد لإدارة الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" مع قادة من حركة "حماس" فى "الدوحة" ، وخروج "آدم بولر" مبعوث "ترامب" لشئون الرهائن الأمريكيين و"الإسرائيليين" فى "غزة"، والإدلاء بأحاديث لعدد كبير من قنوات التليفزيون الأمريكية و"الإسرائيلية" ، وكشفه عن فحوى التفاوض المباشر مع "حماس" المصنفة "إرهابية" فى واشنطن من العام 1997 ، وقال "بولر" وقتها، أن مفاوضاته مع "حماس" دارت حول نزع سلاح المقاومة وحل أجنحتها العسكرية، والبحث عن عقد هدنة مطولة قد تستمر لعشر سنوات، وهو ما أكدته تصريحات صدرت عن قادة من "حماس" وقتها، أعربت عن استعدادها لتقبل مبدأ الهدنة المطولة ، ولكن مع رفض نزع سلاح "حماس" وغيرها من حركات المقاومة الفلسطينية ، وفى غمرة الجدال الدائر وقتها ، قال "بولر" أنه أجرى الاتصال مع "حماس" بأوامر مباشرة من "ترامب" ، ثم بلغت حماسته الذروة ، حين قال "أننا نبحث عن مصلحة أمريكا الخاصة ، ولسنا عملاء لإسرائيل" ، وكانت تلك هى القشة التى قصمت ظهر بعير "بولر"، فقد تحركت حكومة "بنيامين نتنياهو" بسرعة للضغط فى واشنطن ، وأرسلت "رون ديرمر" وزير الاتصالات الاستراتيجية ، وكانت النتيجة إزاحة "بولر" فورا ، وإن عاد وظهر أخيرا على مسرح التفاوض المباشر مع حماس ، و"بولر" رجل أعمال يهودى صهيونى ، تماما كما "ستيف ويتكوف" مبعوث "ترامب " إلى الشرق الأوسط وروسيا وغيرها ، وإعلانه ـ قبل "بولر" وبعده ـ عن اشتراط نزع سلاح "حماس" فى أى تفاوض لوقف حرب الإبادة الجماعية على "غزة".
وفى 18 مارس الماضى، أعلنت حكومة "نتنياهو" عن استئناف حرب الإبادة، وسبقتها بحرب تجويع منذ 2 مارس ، وإغلاق تام لكافة المعابر إلى غزة ، ومنع دخول الغذاء والدواء ، وقطع خط الكهرباء الوحيد إلى محطة صغيرة لتحلية المياه فى غرب "خان يونس" ، مع قصف وتدمير لاحق لخط وحيد لنقل المياه شرق مدينة "غزة" ، وإغلاق وتدمير أغلب آبار المياه ، وهكذا اكتملت دوائر التعطيش والتجويع فى الخمسين يوما الأخيرة ، مع إشهار عمل وكالة أنشأتها "إسرائيل" لتنفيذ ما أسمته حملة التهجير "الطوعى" لسكان "غزة" ، وفتح المنافذ فى مطار "رامون" بالنقب وميناء "أسدود" على البحر المتوسط ، وأعلنت عن النجاح فى تسفير مئات من "الغزيين" إلى "أندونيسيا" وعشرات آخرين إلى "ألمانيا" ، وإن انطوت القصة كلها على مبالغات وتزوير فج ، زادت معه وتيرة القصف بالطائرات المقاتلة والأخرى المسيرة والمدفعية على سكان "غزة" ، وإصدار أوامر بالإخلاء الفورى ، طالت قطاع "غزة" من شماله إلى جنوبه ، وبلغت ذروتها بأوامر الإخلاء الفورى الشامل لسكان "رفح" واحتلال منطقة رفح بكاملها ، وإنشاء خط "موراج" الفاصل بين "رفح" و"خان يونس" ، والذى اعتبره "نتنياهو" خط "فيلادلفيا" آخر ، فى إشارة إلى سابقة احتلال "إسرائيل" لمحور "فيلادلفيا" (صلاح الدين) عند حدود "غزة" مع سيناء المصرية ، وكانت نتائج القصف والحملة الدموية إلى اليوم ، أن أضيف ما يقارب الألفى شهيد فلسطينى إلى مئتى ألف شهيد وجريح ومفقود قبل وقف إطلاق النار الموقوت المثقوب فى 19 يناير 2025 ، الذى اعتبرته إدارة "ترامب" إنجازها الأول تماما.
كما أطلقت إدارة "ترامب" نفسها يد نتنياهو فى خرق الاتفاق ، وفى استئناف حرب الإبادة بعدها ، وتزويد "إسرائيل" بأسلحة أمريكية جديدة بقيمة ثمانية مليارات دولار ، بينها 40 ألفا من القنابل الضخمة الخارقة للتحصينات ، تزن الواحدة منها ألفى رطل ، ورغم مباهاة "نتنياهو" وجيشه بإعادة احتلال أكثر من 30 بالمئة من قطاع "غزة" ، وجعل أكثر من مليونى فلسطينى فى أحوال بؤس مفزع ، يهيمون على وجوههم صباح مساء ، وإجبارهم على النزوح من أماكنهم لعشرات المرات ، ومن دون غذاء ولا ماء ولا دواء ، مع قصف وتدمير ما تبقى من مستشفيات ، وتحدى كل نداءات الدول والمنظمات الأممية ، وتوقف كل المخابز ، واهتراء خيام اللجوء ، واتصال مشاهد مئات الآلاف من الفلسطينيين فى رحلة العذاب اليومى ، وهم يبحثون عن حفنة طعام فى "التكايا" الخيرية ، ويعود أغلبهم بالأوانى الفارغة إلى ما تبقى من خيام وبطون خاوية ، ومن دون الحصول على شربة ماء إلا فيما ندر ، إلا أن الشعب الفلسطينى ظل يواصل حركته الدائرية الحلزونية الدائبة ، ويحتمل عذابا وتجويعا وتقتيلا وتقطيعا للأشلاء بما يفوق كل خيال أسود ، ويفشل خطة التهجير التى تواصلها "إسرائيل" تنفيذا كما تقول لتصور "ترامب" ، إلا أن الأخير فيما يبدو ، ضاق بعجز "إسرائيل" رغم إتاحة الفرصة الكاملة لها ، ومواصلة حرب الإبادة المجنونة عبر 560 يوما من الحرب إلى اليوم ، وبدا "ترامب" فى لقائه الأخير مع "نتنياهو" فى حالة ضيق ظاهر من طول المدة ، واعتبر أن "إسرائيل" أخطأت بالخروج من "غزة" عام 2005 ، وبدا أن "ترامب" يريد وقف إطلاق نار وهدوءا قبل القيام بزيارته المقررة لدول خليجية غنية فى مايو المقبل ، التى يطمع من خلالها فى جنى تريليونات الدولارات الموعودة ، وهو ما حرك جهودا فى الكواليس سعيا لوقف إطلاق نار موقوت فى "غزة" ، ونشطت اقتراحات للوسطاء ، كان بينها اقتراح مصرى وافقت عليه "حماس" ، يقضى بإطلاق سراح ثمانية من المحتجزين الأمريكيين و"الإسرائيليين" الأحياء وثمانى جثث مقابل مئات من الأسرى الفلسطينيين ، ومقابل هدنة تستمر إلى نحو سبعين يوما ، وردت "إسرائيل" على المقترح المصرى باقتراح مقابل ، يزيد عدد الرهائن الأحياء المطلوب إطلاق سراحهم إلى 10 أو 11 ، ويقلص مدة الهدنة إلى أربعين يوما ، تجرى خلالها مفاوضات لوقف الحرب ، ولكن مع وضع شروط "إسرائيلية" مسبقة ، أهمها أن تبقى قوات الاحتلال فى "غزة" دون انسحاب كامل ، وأن تقبل "حماس" البحث فى خطة التهجير التى سبق أن اقترحها "ترامب" ، وأن تنزع حماس سلاحها ، ويجرى ترحيل قادة جناحها العسكرى إلى خارج "غزة" ، وأن تسلم خرائط بمواقعها الحربية وأنفاقها ومخازن سلاحها ، وقد كشفت وسائل الإعلام "الإسرائيلية" عن شروط "نتنياهو" ، الذى يواجه مآزق داخلية متزايدة الأثر ، أبرزها سلاسل بيانات ضباط وجنود الاحتياط فى الجيش والشرطة ، وعشرات الآلاف من الكتاب والأكاديميين والأطباء والضباط السابقين والقادة فى "الموساد" ، ورؤساء أركان الجيش السابقين من "إيهود باراك" إلى "دان حالوتس" ، وهى احتجاجات غير مسبوقة باتساعها فى تاريخ كيان الاحتلال منذ وجد ، وكلها تطالب بوقف الحرب مقابل إعادة المحتجزين "الإسرائيليين" لدى "حماس" ، وعددهم 59 بين أحياء وأموات.
و"نتنياهو" يعرف بالطبع ، أن "حماس" لن تقبل أيا من شروطه ، وبالذات اقتراحه بنزع سلاح "حماس" وأخواتها ، أو قبول خطة تهجير الفلسطينيين التى يرفضها الوسيط المصرى تماما ، وإن كان نقل شروط "نتنياهو" إلى مفاوضى "حماس" فى سياق دور الوساطة ، ومعلوم أن "نزع سلاح حماس" ليس مطلبا ولا اقتراحا مصريا من أصله ، خلافا لما ادعته دوائر إعلامية مريبة متكاملة مع الدعاية "الإسرائيلية" ، وهو ما كذبته الدوائر المصرية ، وكانت مصر ولا تزال ـ كما هو معروف ـ أعلى الأصوات رفضا لخطة "ترامب" لتهجير الفلسطينيين ، وقدمت فى المقابل خطة مدروسة لإعادة إعمار "غزة" دون خروج فلسطينى واحد من أرضه ، ولم يرد ذكر لنزع السلاح فى نص "الخطة المصرية " التى اعتمدت كخطة عربية شاملة فى قمة 4 مارس الماضى ، وخلت من أدنى إشارة إلى نزع سلاح "حماس" وحركات المقاومة ، وإن أشارت الخطة بوضوح إلى تنظيم جديد للسلطة فى "غزة" بعد توقف الحرب ، من خلال "لجنة إسناد" مكونة من 15 شخصا ، ليس بينهم أحد من "حماس" ولا من "فتح" ، وتوكل إلى "لجنة الإسناد" إدارة "غزة" بتفويض من السلطة الفلسطينية المعترف بها دوليا ، ووافقت "حماس" على المقترح المصرى بالكامل سرا وعلنا ، وفى عشرات التصريحات التى صدرت عن قادة "حماس" السياسيين ، جرى التأكيد على تأييد فكرة "لجنة الإسناد" كحكومة تكنوقراط فلسطينية مؤقتة لمدة 6 شهور ، تجرى بعدها انتخابات عامة فى "غزة" والضفة والقدس لاختيار حكومة فلسطينية موحدة ، وإسرائيل ـ كما أمريكا ـ أعلنت رفضها للخطة المصرية ، ولسبب رئيسى ، هو أنها لا تتطرق بحرف إلى نزع سلاح "حماس" وأخواتها ، وهو ما كان موضع امتعاض حتى من أنظمة عربية معروفة ، تؤيد المطلب الأمريكى "الإسرائيلى" بنزع سلاح المقاومة ، وخفضت مستوى تمثيلها فى قمة 4 مارس بالقاهرة ، وتراجعت ضمنيا عن تعهدات سبقت بتمويل خطة إعادة إعمار "غزة" ، وتدرك تماما أن نزع سلاح المقاومة إن جرى لا قدر الله ، هو أقصر الطرق لمذبحة مليونية تطرد الفلسطينيين من وطنهم .
0 تعليق