من الشِعر وحتى القتل!

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

هنالك من يختطف نصيب الطفلة من الضحك. الطفلة محدودة الذكاء التي تتمتعُ بخيال واسع لا يُقدر. تخرجُ من هذا الخيال الخصب امرأة بفستان أخضر وساقين طويلتين، تخرجُ شجرةٌ تخشى على جذورها البلل، يخرجُ الهنود الحمر ومقامع الحديد، وبينما تجعلنا البنت نُصدقُ حدوث كل هذه الأشياء يأتي الآخرون لنفـيها!

هنالك بنت أخرى ظلت تركض خشية ما رأته ولم يكن يجدر بها أن تراه، فحول الركضُ قدميها إلى كرتين دميمتين من جلد وعظم، حدث ذلك عندما شاهدت بائع الحلوى وهو يُخفـي بداخله طفلا أحرقت عجينة السكر قدميه!

لم ينضج الطفل القروي الباكي - الذي نهشت الضباعُ جسد والديه الساقطين من علو شاهق كما نهشته الحياة فـي صباه وشبابه- لم ينضج حزنه حتى مات رجلٌ عجوز اتكأ على كتفه فـي سيارة مهتزة ومتجهة إلى عدن. لم ينضج حتى شاهد معجزات عدن: البحر والسينما والشوارع التي تضج بالبشر القادمين من بقاع الدنيا الشاسعة.

ثمّة امرأة قطعت عن قصد الروابط بين أعضاء جسدها، حررت الأعصاب والدماء والعظام والإحساس. لم تكن وحدها، كانت بين تسع نساء، تارة يسرن على الماء وتارة أخرى يُمرغن رؤوسهن فـي رماد التنور!

الأب الذي أحمى سكينه وصنع بها مثلثا على عنق ابنه، دفع ابنه لأن يُكمل الرسم الناقص، فرسم قاربا نصفه محروق!

هكذا يعيشُ الأطفال فـي عالم غير مرئي اسمه «مرقص القرد»، مكان واسع وساحر، تأتي منه كل الأفكار من الشِعر وحتى القتل، وإليه أيضا تذهبُ عقول المجانين. ربما هو الأمر ذاته الذي جعل الطفلة الجالسة فوق الأحصنة الدوارة فـي الملاهي فـي تقلبٍ محمومٍ بين حزن وجزع وفرح وقبلات مُبللة!

إهداء الساعات كان يجلبُ النحس فـي تلك البلد العجيبة، فكيف يُهدي أحدنا الآخر زمنا محبوسا فـي دائرة صغيرة! لا سيما لأولئك الراغبين ببتر علاقتهم المشوهة بالماضي؟!

وبينما يُقسم الإنجليز والثوار خططهم وغنائمهم، كان هنالك من يلتقطُ طفلة ألقيت من بيت يحترق. طفلة تحولت لأشهر طاهية «زربيان» فـي عدن، وفـي قصّتها شديدة الثراء، نقرأُ التحولات السياسية والأيام الثقيلة من مطبخها عندما يختفـي البصل والسمك واللحوم ويحوم شبح الجوع.. فـي وقت كان غياب روائح الحياة من البيوت يكشفُ عن جثث غير مرئية. آنذاك قاطع العالم اليمن الجنوبي وانكفأت عدن على نفسها، وكل السجناء الذين دخلوا بمزاج عدني مرح خرجوا مجانين يتحدثون مع أنفسهم ومع الجدران!

ونحنُ نقرأ للكاتبة اليمنية هدى جعفر مجموعتها القصصية: «اليد التي علّقت المرآة» الصادرة عن منشورات جدل، نجدُ أنفسنا إزاء لحظات مُكتظة بالعواطف والحساسية، سُلبت من أيام مُفرطة العادية، سُلبت من غفلات المدينة التي تُحرم كل شيء. فحيث يغدو كل شيء مُحرما فإنّ الأشياء تحدثُ بكثافةٍ هائلة تحت جلد المدينة، فلا نرى إلا بثورها وصديدها الملتهب وجذورها المتعفنة.

سبع قصص عن الذين يتركون غصة فـي القلب ما أن يستديروا خارجين من حياتنا، بينما نُراقب ذهابهم بشجنٍ وافتتان. عن الذين يجلسون فـي قاع الكأس السعيدة، لكن ما إن تُزاح قشرتهم الخارجية، فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه قط!

عن المرأة التي تستأجرُ امرأة مجهولة لتحكي لها حتى الفجر كشهرزاد مفقودة، لتنقذها من بئر الوقت المُوحل. عن الروائح التي تستيقظُ بعد سنوات ولا يعرف أحدنا أي رئة عبأتها أولا!

يمكنُ لنظرة واحدة مُرسلة فـي الفراغ أن تُغير الواحد منا إلى أبد الآبدين، وهنا يربضُ جرح السردية التي تنبشُ غبش الطفولة والفهم المتشظي والرعب الكامن فـي استذكارات المهمشين. وبينما تُركبُ الشخصيات قصصها المتداخلة شديدة الغرابة، نُركبُ نحن القراء الفزع الذي يصطلي فـي أعماقنا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق