لعلّ من أكثر القضايا التي نلتقي حولها كبحرينيين هي قضية الهوية الوطنية، لما لها من أهمية في رحلة تطورنا الحضارية، ولحمايتها من التحول إلى مادة زئبقية تتطاير بفعل عواصف العولمة المتقلبة، ومعها التيارات الإيديولوجية والفكرية العابرة للقارات، التي تميل إلى طمس ملامح الهويات الثقافية والهيمنة عليها، مما يفقدها عناصر أصالتها، فتتحول إلى نسخ باهتة متآكلة، يعيش فيها الفرد مشتّتاً وضائعاً في ظل غياب المشروع الثقافي الشامل، الذي يواجه تحديات العولمة، ويعمل على استيعاب الهويات الفرعية وترويضها في كنف الهوية الوطنية الأم.
هذه القضية، التي تفرض نفسها على أجندة العمل الوطني، تحظى باهتمام ملكي كبير. ونلاحظ أن المؤسسات ذات الاختصاص باتت تكثف من برامج تأصيل قيم الهوية الوطنية في صلب حياتنا اليومية.
ومن المهم، ونحن نوجه الأنظار نحو الخصوصية الثقافية والاجتماعية للهوية البحرينية، أن نذكّر أنفسنا أنها كيان حيّ يرفض الجمود والعزلة، ولا يحتمل التنظير الإنشائي الأصم عند وضعه على طاولة البحث. فهذه الهوية الفريدة تشكّلت عبر مخاضات التحولات الاجتماعية والتعليمية والثقافية والسياسية، ولا يدرك تفاصيلها إلا من عاصر تطورها.
وبالتالي، فعلينا أن نغوص نحو الجذور لاستخراج أهم عناصر الهوية المتفرّدة بشخصيتها الإنسانية، ووضع «مصفوفتها» المعبّرة عن قيمها وأفكارها وضوابطها، لحماية التدرج البنائي الطويل للمجتمع البحريني، الذي نجح -في تقديرنا- في ترسيخ وحدة الشعور والانتماء الوطني، وتقوية ثقة المجتمع بالدولة، وحماية وعينا الجماعي من الغزوات الثقافية والفكرية التي حاولت -أو لاتزال تحاول- أن تبذر نبتتها في مناخ غير مناخها.
وهذه «نزعة بحرينية» بميلها للتواصل العميق مع البنية المجتمعية تعرف كيف تُوازن بين التمسك بالجذور الثقافية والانفتاح الحضاري المسؤول عن حماية التطور الإنساني.
وعن هذه النزعة يقول المفكر الراحل محمد جابر الأنصاري: «ولكون البحرين بلداً صغيراً منفتحاً درج أهلها على الاستماع إلى كل الأصوات من عربية وعالمية. فالبحريني، بعكس أغلب العرب، يميل إلى ((فضيلة الاستماع)) منه إلى عادة ((التسميع))! قبل أن يحدد قناعته الفكرية».
ويواصل الأنصاري شرح هذه الميزة البحرينية، مستشهداً بتجربته العلمية، حيث كان أغلب جيله يتأرجح بين تيارات بعثية وماركسية وإخوانية وقومية، وجميعها تيارات فكرية وسياسية سادت وقته، ولاتزال بدرجات متفاوتة. وقد كان الفيصل في معالجة حيرته والابتعاد بقناعاته عن التحزب أو التعصب لهذا الفكر أو ذاك، هو تلك الميزة التي أرجعها للنفسية والذهنية التي تتحلى بها الشخصية البحرينية.
ويقول حول ذلك: «لقد تعرفت على مناهج فكرية غربية لا تُعدّ ولا تُحصى، ووجدت في دراستي النظامية بمدارس البحرين، وما قبل ذلك كدارس للقرآن الكريم في كتاتيبها، أجواء الدين والتراث واللغة العربية منذ نعومة السمع والفكر. لذلك لم تستطع أية عاصفة «غزو ثقافي» أن تقتلعني من جذوري رغم وعورة المسالك في الجامعات الغربية التي درست فيها، وتصرفت حيالها بأنني عربي مسلم من البحرين».
هذه شهادة تاريخية لرجل عاصر الكثير في الداخل والخارج البحريني، وكلماته واضحة وضوح الشمس لكل بحريني الهوى والهوية. ونتمنى أن تصل العِبرة من هذه الشهادة إلى كل من يهمه أمر إبقاء وهج هذا الإدراك العقلاني كسد منيع لحماية مفردات الهوية وفرادتها.
تفاؤلي كبير بالمبادرة الأخيرة لسمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة، «البيت العود»، التي تأتي ضمن سلسلة مبادراته القيّمة والنوعية المهتمة بالحصانة الفكرية لشباب اليوم، الذين هم رجال ونساء الغد، والتي أجدها في خطوطها العريضة متأهبة وواعية لتحديات العصر وإشكالاته.
وبحسب فهمي لعنوان المشروع، فالمراد من «بيتنا العود» هو الوطن البحريني الكبير الذي نجتمع حوله، بتأسيسه المدني المتحضر، ومخزونه التراثي والثقافي والفكري الغني، فلا يتسلل إليه من تسوّل له نفسه المساس بذلك الإرث الغزير. وهو ما يجعلنا بحاجة إلى إتقان ثنائية الجمع بين: «السلفية» المحصنة للبناء التاريخي المتراكم لتراثنا الثقافي والقيمي، و«التقدمية» المغربلة لعولمة الحداثة من أجل الفوز في سباق التقدم... وعلى طريقة «النزعة البحرينية».
* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة
0 تعليق