خارج أحد متاجر المجوهرات في وسط مومبي بالهند عُلِّقَت لوحة مكتوب عليها «هل يمنعك ارتفاع أسعار الذهب من شراء حلي مناسبة زواجك؟ لا تدفع أي شيء لتحقيق حلمك».
كان المتجر يعلن عن «مهرجان استبدال» الحلي القديمة بأخرى جديدة. وكانت أسعار الذهب أصلا تشهد ارتفاعا عندما كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رسومه الجمركية الشاملة التي فرضها على معظم العالم يوم 2 أبريل. رفع إعلانُ ترامب بتطبيق الرسوم سعرَ الذهب لفترة وجيزة إلى أعلى ذروة له على الإطلاق حيث بلغ 3166 دولارا للأونصة وبنسبة 17.4% عن مستواه في يوم توليه سدّة الحكم (تاريخ المقال 16 أبريل). وفي 11 أبريل تجاوز سعر الأونصة 3200 دولار.
بالكاد قلَّص ذلك الارتفاع حماسَ المستهلكين لشراء الذهب. وحتى مع بلوغه أربعين ذروة سعرية خلال عام 2024 ظل الطلب عليه مستقرا في الهند. أحد أسباب ذلك أن مستويات سعره المطلقة (أسعاره الفعلية) ليست مهمة حقا، حسب انينديا بانيرجي بشركة «كوتاك سكيوريتيس» للوساطة. يقول «المهم هو الاستقرار. فإذا ظلت الأسعار عند ذلك المستوى سيعود الطلب». وحسب المجلس العالمي للذهب لا زال الهنود يشترون الحلي الذهبية عند الحاجة مثلا لمناسبات الزفاف وغيرها. وهم ينتهزون فرصة ارتفاع الأسعار للاستفادة من عروض متاجر المجوهرات. كما يزداد الإقبال على القروض بضمان الذهب أيضا.
البلدان الآسيوية مستهلِكة شرهة للمعدن الأصفر. ففي العام الماضي كان الهنود أكبر مشترين للحلي الذهبية وبلغ إجمالي مشترياتهم 560 طنا. لقد تفوقوا بذلك على الصين التي اشترت 510 أطنان. كما اشترى الهنود أيضا 240 طنا من السبائك والعملات الذهبية والصينيون 345 طنا. وفي تايلند قفز الطلب على السبائك بنسبة 17% إلى 40 طنا ويعود ذلك إلى تزايد الإقبال على التطبيقات التي تبيع معدن الذهب عبر الإنترنت. وإذا أضفنا أسواق رئيسية أخرى مثل اندونيسيا وفيتنام سنجد أن آسيا شكلت 64.5% من الطلب العالمي على الحلي والسبائك الذهبية في العام الماضي. ولا يشمل ذلك مشتريات البنوك المركزية. أما أمريكا فيمثل طلبها 6.5% فقط.
أحد أسباب ولع آسيا بالذهب يعود في جزء منه إلى دوره في الأحداث الحياتية المهمة خصوصا مناسبات الزواج. تقدر شركة تجارة التجزئة «كاليان للمجوهرات» أن الهند تشهد 10 ملايين زيجة سنويا ويشكل طلبها لوحده ما بين 300 طن و400 طن من الذهب. « كما يشتري العديد من الهندوس الذهب في الأعياد الدينية مثلما هي الحال خلال موسم الاحتفالات الذي يبلغ ذروته في عيد ديوالي في الخريف أو مهرجان أكشايا تريتيا في الربيع ويصادف هذا العام يوم 30 أبريل.
الذهب يتغلغل عميقا في التقاليد الثقافية الصينية. ففي الأجيال السابقة كان إحدى الوسائل القليلة لتخزين الثروة وتوريثها للذرية. وخارج الصين تبنى الصينيون في المهاجر تقليد الزفاف لدى مجتمعات شعب التيوتشيو في جنوب شرق آسيا. فأسرة العريس تشتري أربعة قطع من الحلي الذهبية للعروس لكي ترمز إلى أركان السقف (البيت) الأربعة الذي يُتوقع من الزوج توفيره.
نتيجة لذلك كثيرا ما يُعزى ولعُ الآسيويين بالذهب إلى أسباب ثقافية. لكن الهند والصين مختلفتان ثقافيا اختلافا كبيرا. وبلدان جنوب شرق آسيا تغتاظ أيضا إذا صُنِّفت كجماعة ثقافية واحدة.
في الواقع تكمن خلف الدوافع الثقافية لاقتناء الذهب عوامل اقتصادية ومالية أعمق تُعين على تفسير الإقبال المستديم على الذهب.
تنويع الأصول أحد العوامل بالغة الأهمية. فالمستثمرون حول العالم يقدِّرون الذهب كمخزن للقيمة وأداة تحوُّط من التضخم خصوصا في أوقات عدم الاستقرار. في الواقع ظل الأمريكيون يتزاحمون على الذهب منذ تنصيب ترامب وسارعوا إلى شراء المزيد منه في أوائل مارس بأكثر مما فعلوا خلال ذروة الجائحة عام 2020. ويقول أحد وسطاء تجارة الذهب في سنغافورة إنه ظل يرتب شحن كميات كبيرة منه للأثرياء القلقين والذين يكتنزونه.
لكن في معظم آسيا يلعب الذهب دورا إضافيا كتحوُّط من انخفاض قيمة العملة ووسيلة للاستثمار في أصل غير مرتبط بالاقتصاد الوطني.
في الواقع، تصنيف البلدان الآسيوية وخصوصا الهند والصين ضعيف في مؤشرات حرية الاستثمار. فالقيود على رأس المال شائعة والاستثمار في الأسواق الأجنبية يتراوح من صعب إلى مستحيل.
بحسب جوزيف سيباستيان وهو مستثمر في شركة رأس المال المغامر «بلوم فينتشر» شراء الذهب هو «السبيل الوحيد الذي يمكن به لرأسمالنا المقيَّد الحصول على أصول بخلاف الروبية». وعلى الرغم من ازدهار الاستثمار في السنوات الأخيرة تخصص العائلات الهندية أقل من 6% من أصولها لشراء الأسهم مقارنة بحوالي 15% للذهب.
في الصين حتى الاستثمار المحلي يمكن أن يكون صعبا. فالعديد من الصناعات المربحة تسيطر عليها الحكومة ومحظورة على مستثمري التجزئة. والتداول في أسواق الأسهم الصينية أقل من أعلى مستوياته في فترة الجائحة حتى قبل أن يتسبب تهديد ترامب بفرض الرسوم الجمركية في اضطراب السوق. كما أنه أقل كثيرا من ذُراه (قِمَمه) التاريخية. وفقدت العقارات بريقها كطريق إلى بناء الثروة. فأسعار المساكن الجديدة هبطت بنسبة 5% من ذروتها في عام 2021. لقد تضاعف سعر الذهب المعياري إلى 737 يوانًا للجرام خلال السنوات الخمس السابقة لنهاية مارس الماضي محققا عائدا سنويا بنسبة 15.4%.
بالنسبة للصينيين أصبح الذهب أكثر جاذبية مع تباطؤ اقتصاد الصين. فبدلا من الاحتفاظ بنقودهم في البنك والتي قد تحقق فائدة تتراوح بين 1 و2% سنويا يفضل الشبان شراء مقادير بسيطة من الذهب قد تصل إلى جرام واحد.
سياسة الحكومة أيضا تعزز الرغبة في الذهب. يقول تاجر ذهب في مدينة شيان «عندما يشتري البنك المركزي الذهب يقول الناس: أوه. يجب أن نشتري الذهب أيضا». هنالك تحول من شراء الحلي إلى السبائك وهو ما يوحي بأن المشتريات يحركها الاستثمار وليس العوامل الثقافية.
أيضا دور الذهب في ضمان الاستقرار المالي لا يقلّ أهمية. ففي الصين والهند وباكستان ومعظم جنوب شرق آسيا أقل من نصف الناس في سن العمل فقط مدرجون في تقاعد إلزامي. لذلك يمثل الذهب شبكة أمان في الشيخوخة. وهو مهم خصوصا للنساء. فَهُنَّ يفتقرن في بلدان آسيوية عديدة إلى قدرة اكتساب الدخل التي يتمتع بها الرجال. وفي بعض المناطق كجنوب آسيا كثيرا ما لا تكون لديهن أصول مسجلة بأسمائهن.
الذهب بالغ الأهمية أيضا في تأمين سلاسة التدفقات النقدية للمزارعين والتجار الذين تخضع دخولهم للتقلبات المناخية والاقتصادية. ومثلهم مثل الشباب الصينيين يدخر أهل الريف الهنود مبالغ صغيرة لشراء الذهب كي يضمنوا توافر السيولة عندما تضيق بهم الحال. ويشكل النظام الضعيف لتسجيلات الأراضي في الهند وتخلّف سوق الرهونات العقارية عائقا أمام الاقتراض بضمان ملكية الأرض. أوجد ذلك سوقا مزدهرة تتخذ باطراد شكلا رسميا للاقتراض مقابل الذهب.
فشركة «مثوت» وهي أكبر شركة إقراض بضمان الذهب تقدم قروضا خلال أقل من 15 دقيقة وتشهد عددا متزايدا من طالبي القروض من الطبقة الوسطى. لقد زادت القروض مقابل الذهب بنسبة 68% في الفترة بين أبريل وديسمبر في العام الماضي ارتفاعا من 12.7% في الشهور التسعة الأخيرة من عام 2023.
على الرغم من أن طلب آسيا الهائل على الذهب مبرر على مستوى الأفراد إلا أنه يفرض تكاليف على المستوى الوطني. يقول الاقتصاديون يمكن تخصيص المبالغ الضخمة المستثمرة في الذهب لاستثمارات أكثر إنتاجا. أما الشكوى الأكبر فتتعلق بأثره على ميزان التجارة.
في العام الماضي عزا البنك المركزي في تايلند إلى واردات الذهب المرتفعة تحوّلُ الفائض في الحساب الجاري إلى عجز. وشكل الذهب 8% من إجمالي واردات الهند. وفي بعض الشهور كان يمثل أكبر فئة لوارداتها. وفي السنة المالية المنتهية في مارس 2024 كانت قيمة صافي واردات الهند من الذهب التي بلغت 45 بليون دولار تقارب ضعف قيمة عجز حسابها الجاري. ومن شأن ذلك أن يقود إلى انخفاض قيمة الروبية الهندية ويعزز الطلب على الذهب. يقول سيباستيان من وجهة نظر الاقتصاد الكلي شراء الذهب سيء ولكن من وجهة نظر جزئية وشخصية فأنا لا تزال 20% من أصولي (أموالي) في الذهب».
لا يوجد حل سهل. فالحكومات يمكنها تطبيق سياسات تحُثّ الناس على عدم شراء الذهب. لكن ذلك سيعزز التهريب والأسواق السوداء. هنالك خيار آخر وهو إنتاج المزيد من الذهب في الداخل على الرغم من أن الجيولوجيا قد يكون لها رأي آخر.
الصين هي أكبر منتج للذهب في العالم. فقد بلغ إنتاجها 378 طنا في عام 2023. لكن حتى تلك الكمية تمثل فقط أكثر من 40% من الطلب على الحلي والسبائك. ويتراجع إنتاج الهند منذ عقود على الرغم من وجود موارد كبيرة من خام الذهب وذلك لأسباب من بينها القيود القانونية. فالهند أنتجت طنا واحدا فقط من الذهب في عام 2022 والذي استوردت فيه أكثر من 700 طن.
الحكومات التي تريد تقليل استهلاكها من الذهب عليها أن تفكر في إجراء إصلاحات أكثر صعوبة أو غير مستساغة مثل تعميق أسواق الائتمان وإصلاح نظام تسجيلات الأراضي وإزالة العوائق في النظام القضائي أو تحرير حركة رأس المال. وعلى الرغم من كل الأسباب الثقافية لاقتناء الذهب والتي كثيرا ما يتحدث عنها الناس إلا أن العوامل الاقتصادية والسياسية وراء استمرار ولع الآسيويين باقتناء الذهب.
0 تعليق