كتب الكلام.. تأريخ عقلي

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عندما كنتُ أقرأ لزكي نجيب محمود في سرده لسيرته الذاتية، بدأت بقصة نفس، فإذا بي أجد بها نقصًا يتعلق بالقصة العقلية المخفية لواحد من المفكرين الكبار، فلما بدأت بقصة عقل وجدت الرجل يشير لذات المسألة، وهي أن قصة نفس تنقصها السيرة العقلية التي عاشها المؤلف، وبعد قراءة هذا الثاني وجدته يبني صورة متكاملة حول التكونات العقلية التي عاشها وكيف يقتنع بمنهج ثم يطوره حتى يصل إلى صورته النهائية، وكان الأمر ذاته عندما كنتُ أقرأ (رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر) لعبد الوهاب المسيري.

وما أن دخل موعد معرض الكتاب، حتى تجولت بين دور التراث، أبحث عن كتب علم الكلام، فأقرأ واحدًا متقدمًا وآخر متأخرًا، وأنا أرى الشيء نفسه الذي رأيته في الكتابين السابقين، لكن في هذه الحالة بشكل أكبر وأشمل وأعمق، يتعلق بمذاهب وفلاسفة وعلماء طبيعة وعلماء دين ولغويين وشعراء، الجميع يطور فكرة معينة، حتى يصل لنقطة يعارضه في بعض تفاصيلها من ينتمي لذات مسلكه المعرفي والفكري.

إن كتب الكلام في التراث الإسلامي وإن كان الزمن قد تجاوز كثيرًا من مسائلها، وأصبحت قراءتها في كثير من الأحيان للمعرفة والتعمق أكثر وللدربة العقلية، لكنها في الوقت ذاته تشكل هذا النوع من التأريخ العقلي لأصحابها وأصحاب المذاهب، بحيث تصبح مكملة لبعضها، والقارئ المتتبع لها يستطيع من خلالها مراقبة الفكرة حتى نهاية تطورها وتوقفها عند مرحلة معينة، ويطرح هذا المقال كتب الكلام المعتزلية أنموذجا عليه.

تطورت الأفكار الكلامية عند المعتزلة بشكل مطّرد ومتسارع، فمنذ بدأ اعتزال واصل بن عطاء لحلقة الحسن البصري في القصة المعروفة، حتى مجادلات عمرو بن عبيد، وصولا لاعتماد الأصول الخمسة، وتطور الأفكار الكلامية حتى دخول الأفكار الفلسفية والفيزياء الطبيعية -كما عند النظّام مثلا- تطورت الأفكار وتداخلت في بعضها، فاختلف المعتزلة أنفسهم في كثير من التفاصيل، حتى انقسموا لمدرستين، ثم انقسموا داخل كل مدرسة منهما، لكن الجميع أبقى على الخط العام فيما يتعلق بالإيمان بالأصول الخمسة، وهكذا فعندما تقرأ في (المغني في أبواب التوحيد والعدل) للقاضي عبد الجبار الهمذاني، تجد أن التاريخ العقلي للمعتزلة مبسوطٌ فيه، ينقد فيه اللاحق السابق، ويصحح التلميذ للأستاذ، والابن لأبيه، حتى تصل إلى الكتب التي بحثت في التاريخ الفكري للمعتزلة، مثل كتاب (معمار الفكر المعتزلي) لسعيد الغانمي، أو كتاب (معتزلة البصرة وبغداد) لرشيد الخيون قبله، تجدها أيضا تصف هذا التاريخ وربما قاربته بمقاربات معاصرة، وفي كل الأحوال، سردته بلغة معاصرة لا تستعصي على القارئ المبتدئ فهمها.

ويُمكن أخذ أنموذج تداخل الأفكار الفلسفية والكلامية في التراث الإسلامي من الناحية اللغوية من حيث درجة تعقيد اللفظ الفلسفي، فقد بدأت الأفكار الكلامية من بساطة لغوية (البساطة لا بمعنى اللغة نفسها، وإنما طريقة طرح الفكرة) منذ عصر النبوة والخلفاء من بعده، فتجد مثلا في نهج البلاغة قول الإمام علي: «الذي ليس لصفته حدٌّ محدود، ولا وقتٌ معدود، ولا أجلٌ ممدود»، أو قول واصل بن عطاء في خطبته الخالية من الراء: «الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوه، ودنا في علوه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان»، وعلى الرغم من الجدالات في مثل هذه الأقوال، لكنها تبقى في ذاتها خالية من التعقيد الفلسفي أو الكلامي، لأن هذا ما كان قد وصل إليه العقل البشري في ذلك الوقت، لكن عندما تداخلت العلوم مع بعضها واستعملت في إثبات الفكرة الكلامية للمذهب، أو نفي فكرة المذهب الآخر، فإن اللغة أصبحت أكثر تعقيدًا لأنها استعملت المنطق الأرسطي، فانظر مثلا إلى قول أبي الحسين البصري في إثبات المحدِث للعالم كما ينقله عنه ابن الملاحمي: «فإن صح أن الفلك والاسطقسات لم تتباين لأمرٍ يرجع إلى الهيولى، صح أن تباينها لأمرٍ آخرَ، وهو القادر المختار.

وإذا ثبت القادر الجاعل للأجسام على صورها فإما أن يكون قديمًا أو محدثًا، ولو كان محدثًا، لم تنتهِ الحوادث، فلزم أن يكون قديمًا، ولزم بما تقدم أن يكون غير ذي جسم ولا عرض، وهو الله تعالى»، فتجد اختلافًا شاسعا بين الأقوال الأولى والأقوال الأخيرة هذه من ناحية التعقيد الفلسفي والاستدلال بالمنطق حتى يتبدى ذلك في اللغة، وإن شئت فانظر للغة ابن سينا حتى تتبين الأمر بصورة أوضح.

لماذا نقرأ علم الكلام؟- هذا السؤال الذي من أجله كُتب المقال في البداية، ومن خلال العرض السابق يتضح أن الأمر ليس متعلقًا بفهم العقائد فقط أو الانتصار للمذهب الكذائي أو تفنيد أقوال المذهب الكذائي، وإنما الأمر يتعلق بشكل أساسي بتطور العقل في التراث الإسلامي، باعتبار أن كتب الكلام تقدم تأريخًا عقليًا شاملاً، منذ بداية تكوّن الفكرة جنينًا في عقل مفكر، حتى تصل لتكون عجوزًا عند آخر.

فإن هذه الإعادة لقراءة كتب علم الكلام، إضافة لإعلائها الحالة النقدية والفكرية والدربة العقلية، فإنها تشرح تطور الأفكار في التراث الإسلامي ووصولها إلى ما وصلت إليه في العصر الحالي. كما أنها دعوة للمفكرين والكتّاب إذا اهتموا بكتابة سيرهم الذاتية يومًا ما، أن يهتموا أيضا بترجمة سيرتهم العقلية كذلك، حتى تكون قصة النفس وقصة العقل مكتملة وواضحة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق