دعم المحروقات وسعر الصرف في ليبيا

مصدرك 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في قلب الصحراء الليبية، حيث تلتقي رياح التغيير بصراعات السياسة، يقف الاقتصاد الليبي في مفترق طرق حاسم. فنظام دعم المحروقات، الذي يشبه «بالوناً منفوخاً بلا صمام»، لا يعكس إلا حالة من الإنهاك الاقتصادي الذي يُستنزف فيه المال العام بينما يختنق سعر الصرف تحت وطأة التضخم والفساد.
التحديان الأساسيان اللذان يواجههما الاقتصاد الليبي -دعم الوقود غير المستدام واختلال سعر الصرف- باتا يشكلان دائرة مغلقة تهدد بالانفجار. وتزداد أهمية هذين التحديين في ظل اقتصاد ريعي هش يعتمد على النفط فقط.
كما أن العلاقة بين دعم المحروقات وسعر الصرف لا يمكن النظر إليها بمعزل عن السياق المالي والسياسي، حيث تتحول السياسة النقدية، إلى مجرد رد فعل مضطرب لعوامل خارج السيطرة.
ومن خلال قراءة البيانات المتوفرة تكشف دراسة الواقع الليبي عن حلقة مفرغة تربط بين دعم المحروقات واختلال سعر الصرف. فمن جهة، يُستنزف ما يقارب 12 مليار دولار سنوياً من الخزانة العامة فقط في دعم الوقود، بحسب تقرير ديوان المحاسبة الليبي لعام 2022. وهو ما يضعف قدرة الدولة في الحفاظ على احتياطيات كافية من العملة الصعبة، ما يُلقي بظلاله على سعر صرف الدينار.
ومن جهة أخرى، فإن ضعف الدينار يؤدي إلى ارتفاع في تكاليف الاستيراد، حيث تعتمد ليبيا على الخارج لتأمين نحو 90% من احتياجاتها، وفق البنك الدولي. ويُلاحظ أن كل انخفاض بنسبة 10% في قيمة الدينار يؤدي إلى ارتفاع في الأسعار العامة بنسبة تتراوح بين 6 إلى 8%، بحسب تقديرات مركز الدراسات الاقتصادية التابع للأكاديمية الليبية.
كما أن ملف تهريب المحروقات يزيد الطين بلة، إذ تُقدَّر خسائر الدولة منه بنحو 750 مليون دولار سنوياً. هذا التهريب لا يقتصر على استنزاف الوقود، بل يخلق ضغطاً على سوق العملة من خلال الطلب غير المشروع على الدولار، ما يؤدي إلى توسيع الفجوة بين السعر الرسمي والموازي.
أي اقتصاد طبيعي يُفترض أن يعكس سعر الصرف الوضع الإنتاجي للدولة. لكن في الحالة الليبية، لم يعد الدينار مرآة تعكس الأداء الاقتصادي، بل ضحية لأزمات مزمنة. وبدلاً من توجيه العائدات النفطية نحو الاستثمار في الإنتاج أو البنية التحتية، يتم صرفها على نفقات استهلاكية.
المصرف المركزي -رغم الانتقادات- لم يُمنح الأدوات الكافية لحماية العملة، وهذا ما يتجلى بوضوح من خلال المشهد العام. ففي ظل سياسات إنفاق غير منسقة، يصبح الدينار مكشوفاً أمام أي صدمة. وقد بدا أن التضارب بين السعر الرسمي والموازي للدولار لم يعد مسألة تقنية، بل يعكس وجود اقتصادين متوازيين.
وهنا، فإن من يتحمل العبء الحقيقي لهذه الفوضى هو المواطن العادي، الذي يدفع الثمن يومياً عند شراء الغذاء أو الدواء. ولا يرى حتى الآن سياسة اقتصادية شاملة تعيد للدينار عافيته. لأن أي معالجة لسعر الصرف يجب أن تكون جزءاً من إصلاحات أوسع تشمل الانضباط المالي، وتوحيد المؤسسات، وشفافية الإنفاق.
وبالتالي، لا بد أن تكون البداية بتعديل نظام الدعم، عبر التحول إلى الدعم النقدي الذكي الذي يمكن -بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي- أن يوفر نحو 4.8 مليار دولار سنوياً. كما أن تحرير أسعار الوقود تدريجياً بنسبة 50% سيكون خطوة واقعية، بشرط اتخاذ إجراءات موازية مثل تحسين المواصلات العامة وتشديد الرقابة على الحدود.
كما يمكن لتقليص الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي إلى حدود 15%، وتخصيص جزء من الوفورات لدعم الاحتياطيات، أن يعيد بعض الثقة إلى العملة. ومن خلال متابعة نماذج دول أخرى، فإن إنشاء صندوق استقرار للسلع الأساسية وضبط الاستيراد للسلع الاستراتيجية سيكون له دور كبير في حماية الشرائح الضعيفة.
إن من شأن خفض دعم الوقود أن يزيد من حجم الاحتياطيات النقدية ويقلل الطلب غير المشروع على الدولار، الأمر الذي سينعكس إيجابياً على استقرار الأسعار والحد من التضخم المستورد. وبعد تنفيذ الإصلاحات خلال ثلاث سنوات، يمكن خفض التضخم من 12% إلى حدود 6–8%، وتقليص دعم المحروقات إلى 5 مليارات دولار، وزيادة الاحتياطيات النقدية من 70 إلى 85 مليار دولار.
لا بد لأي خطة جادة أن تشمل التنسيق الكامل بين المصرف المركزي ووزارة المالية، وربط تعديل الدعم بسياسة نقدية رشيدة. ويجب أيضاً خلق شبكة أمان اجتماعي حقيقية تستهدف الفئات الضعيفة من خلال تحويلات نقدية وسلة غذاء مدعومة، وكذلك دعم للوقود يُخصص فقط للقطاعات الإنتاجية. هذا مع ضرورة وجود نظام متابعة شهري لقياس الأثر الفعلي للتعديلات وتعديل المسار عند الحاجة.
هذه الرؤية المقترحة لا تقدم تصوراً فنياً فقط، بل تسعى لتقديم مدخل عملي لإنقاذ الاقتصاد الليبي من أزمته البنيوية. نقطة انطلاق نحو اقتصاد أكثر استدامة وعدالة.

* أستاذ اقتصاد في جامعة بنغازي

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق