الشاعر الذي ما زال تحت الأنقاض لا تنسوه.
قبل الحرب بأيام، لبّى دعوة مدرسة ثانوية، قرأ شعرًا للبنات، عاد إلى البيت، تناول طعامه من يد ابنته ومعبودته جمانة، أشعل ألف سيجارة، غفا قليلًا على الأريكة، ثم جاءت الحرب وجرفت سليم النفار وغفواته وبيته والأريكة وجمانة ويدها والعائلة جميعها، والطالبات والمدرسة والقصيدة.
لا تنسوه.
آهٍ يا عظام الشاعر، ويا عظام القصيدة.
كيف سأشرح موتك يا سليم؟ فأنت لست قصيدة عمودية فـي منهاج مدرسي، ولست مسألة رياضية أو خبرًا سياسيًا على شاشة فضائية ثرثارة، ولا طقسًا مضطربًا سببه تحوّل مفاجئ فـي الفصول.
كيف إذًا سأشرح موتك يا سليم؟
لا أمتلك والله رفاهية هذا الشرح، أن أقف أمام جمهور وأحكي عن شاعر وشهيد وصديق.
كيف سأشرح موتك يا سليم؟
ولأنني أقف أمام جمهور يحب شعبك يا سليم، فسأبذل جهدي لأقول شيئًا عنك وعن جمانة.
هل قلت جمانة؟ يا الله، جمانة جمانة جمانة جمانة...
حسنًا، سأبدأ من جمانة.
جمانة، التي من اثنين وعشرين عامًا، ومن فضةٍ فـي الكلام، ومن حديقة من الضحكات، ومن نهر من الشوكولاتة.
جمانة التي من أبيها، من غزة، من فلسطين.
قبل خمس عشرة سنة، وفـي رام الله الساحرة، على هامش معرض كتاب، كنت أجلس مع سليم، أو لأكن واقعيًا: كنت أجلس فـي صوت سليم، وهو يحكي عن ابنته جمانة.
وأن تجلس فـي صوت صديق يحكي بحرارة عن ابنته ذات السبعة أعوام، فهذا يعني أنك تجلس فـي عين الزمن:
«هل تعرف يا زياد أن جمانة عبقرية فـي الرسم؟ ترفع البحر ليصير سماء، وتسقط السماء لتصبح بحرًا، هل تتخيل المشهد يا زياد؟ هذا المشهد من اختراع ابنتي جمانة. جمانة حياتي يا زياد، حياتي حياتي.
هل تعرف ماذا تقول معلمة اللغة العربية عن جمانة، يا صديقي؟ تقول إن بنات الشعراء قصائد، وإنها فخورة لأنها تُعلّم قصيدة من قصائد غزة».
هل تعرف ماذا تحب جمانة يا صديقي؟
تحب الله، والريح، والمطر، ومحمود درويش، والقوارب، وكتب أبيها، والشوكولاتة.
هل تعرف بماذا تحلم جمانة يا صديقي؟ أن تصبح جنية ترشد بحارة غزة الفقراء إلى بقع السمك الكثير.
تحفظ جمانة أسماء البحارة الفقراء وتعرفهم شهقة شهقة، وسعالًا سعالًا، وتميزهم من خطواتهم وظلالهم وأصواتهم وقواربهم النحيلة، ونعاسهم وخوفهم وتعبهم وأفواههم القليلة الأسنان.
على هامش معرض كتاب قبل خمس عشرة سنة فـي رام الله الساحرة، جلست مع سليم النفار.
كان سليم جبلًا ضخمًا من النار وكتلة عالية من القطن.
كلما كتب سليم قصيدة، شبّ فـينا وفـيه حريق، ونهض سؤال، والتَمعت عينا طفل.
سميته شاعر الطفولة والحرائق.
حافظ التوازن العبقري بين جبل النار داخله الضخم وكتلة القطن العالية.
سيغادر سليم رام الله عائدًا إلى بيته فـي غزة محمّلًا بقوالب شوكولاتة إلى جمانة، هدية من عمها «زوزو» كما تخاطبني.
ستصل الشوكولاتة إلى جمانة، ستتصل بي وتشكرني بصوتها الذي يشبه صوت غزة.
ولا تسألوني عن صوت غزة.
قلت لكم: إني عاجز عن الشرح، وإني الآن مرتجف أمامكم أخوض مغامرة الكلام عن موت سليم وشعره وحياته وموته.
أرجو أن تعذروني على تشتت لغتي وعلى هروبي إلى مجاز المجاز خوفًا من رعب الواقع الذي يشبه المجاز.
ستستمر قوالب الشوكولاتة فـي رحلاتها السنوية مع كل معرض كتاب يحدث فـي رام الله.
عبر قلب سليم، سيستمر قلب «عمو زوز» فـي الفرح، لأن طفلة من غزة تفرح هناك، فـي بلاد الفرح الناقص.
ستكبر جمانة كل عام، لكن الشوكولاتة لن تكبر.
ستظل الطفلة الصديقة لجمانة ثابتة المذاق، كاملة الاستعداد للذوبان السعيد فـي قلب أجمل طفلات غزة.
ستواصل جنية غزة الغامضة، كل عام، وهي تطل فـي فجر القطاع من شرفتها على الشاطئ، إرشاد بحارة غزة الفقراء قليلي الأسنان إلى مناطق السمك الكثير.
وستواصل طفلة اسمها ميار الاستماع الممتع من والدها البحار الفقير قليل الأسنان لحكاية السماء التي تمطر شوكولاتة لذيذة، وقصة السمك الكثير الذي يلمع فجأة على الشاطئ فـيما يشبه تدخلًا إلهيًا رحيمًا.
لم تتوقف رحلات الشوكولاتة من رام الله إلى غزة.
صار عمر جمانة اثنين وعشرين قالب شوكولاتة.
فـي معرض الكتاب الأخير، صيف ٢٠٢٣، وفـي فندق «بيوتي إن» حيث ينزل سليم طيلة أيام المعرض، جلست مع سليم فـي آخر ليلة له قبل أن يغادر إلى موته هناك، فـي بلاد الفرح الناقص.
ست ساعات من الحديث مع سليم، دخّن فـيها نصف مليون سيجارة، وغير جلسته فـي كرسيه ألف مرة، وحكى لي بالتفصيل الذابح قصة استشهاد والده فـي لبنان، تحشرج صوته فـيها آلاف المرات، ومُقسمًا بشرف مجلة الكرمل، حيث مكتب محمود درويش أمامه تمامًا فـي مبنى مؤسسة السكاكيني، أن يواصل النضال بأشعاره إلى أن تعود البلاد إلى بلادها.
وقصة انتقاله من تنظيم إلى آخر بحثًا عن الصدق المطلق كما قال، لكنه لم يجد هذا الصدق المثالي فـي أي تنظيم.
لكم الحائط أثناء هذه الحكاية آلاف اللكمات.
فوجد نفسه أخيرًا فـي حضن تنظيم قاده إليه صديق لوالده الشهيد، قائلًا: «هنا أفضل الموجودين. فكن هنا وانعم بدفء ما، يا سليم.»
أول الحرب.
اتصلتُ بسليم وجمانة قائلًا لهما: «ستصل الشوكولاتة كما كل عام، لا تقلقا.»
سمعتُ ضحكة الجنية من غرفة مجاورة، شممتُ دخان سيجارة سليم، ورائحة الكفتة بالطحينية من المطبخ، الأكلة التي تعشقها جمانة.
ثم فجأة سمعتُ انفجارًا ضخمًا قريبًا.
بعد أسبوع، سأسمع عن قصفٍ لعمارة سكنية وسط غزة.
وسأعرف أن سليم وعائلته كلها، وشقيقه وعائلته كلها، قد دُفنوا تحت الأنقاض.
بعد أسبوع، سأجد بالصدفة فـي هاتفـي رسائل غير مقروءة من سليم.
من هاتفه سأقرأ الرسالة الأخيرة، وهي الأهم:
«عزيزي زياد، نحاول الاتصال عليك. جمانة كتبت قصيدة عنوانها (شوكولاتة وبحارة)، وهي تريد قراءتها لك على الهاتف».
لم أنتبه والله للاتصال، يا سليم.
سامحني يا حبيبي.
تستمر الحرب، ويغزو الصهاينة غزة، وعلى شاطئ بحرها، يسأل جندي مدجج بالكراهية لحجر غزة وبشرها ضابطَه، بينما كانا يمشيان على الشاطئ مع مئات الجنود:
من أين يأتون بالشوكلاتة وهم تحت الجوع والحصار؟.
لم يجب الضابط، «أتلاحظ شيئًا؟ غريب هذا الشعب ،انظر هنا وهناك، ثمة المئات من أغلفة قوالب شوكولاتة فاخرة هنا».
0 تعليق