المراجعات الفكرية الثاقبة.. زكي نجيب محمود مثالًا

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في مسيرة حياتهم الفكرية والسياسية، راجع الكثير من المفكرين والسياسيين العرب، رؤيتهم الفكرية والثقافية والسياسية، التي اعتنقوها في فترة من حياتهم الدراسية أو الفكرية، ومن خلال هذه المراجعات العقلية، تخلوا عن بعض الأفكار الفلسفية التي اعتنقوها، ومن هؤلاء المفكر والفيلسوف العربي المصري د. زكي نجيب محمود، الذي اعتنق الفلسفة الوضعية المنطقية، عندما كان يدرس الفلسفة في الغرب في بداية مشواره الفلسفي المتخصص فيها، وتعني اصطلاحًا (التجربة العلمية)، أو النظر العلمي التي تتخذ عن طريق الحواس طريقًا للمعرفة والعلم، مع إنكارها لدور العقل في المعرفة، فالفلسفة عند أنصارها كما يقول د. زكي نجيب محمود: «لا ينبغي أن تجعل غايتها شيئًا غير التحليل المنطقي لما يقوله سواها، فهي تدع غيرها يتكلم بما يدعي الكشف عنه من حقائق العالم ثم تحلل هي بعد ذلك ما نطق به من كلمات لكي نستوثق من أن هذا الذي يقال كلام له معنى أو لا معنى له، ولا تزج الوضعية المنطقية بنفسها بين دلالة الكلمة والأصل الطبيعي المنبثق عنه، فهي لا تحاول معرفة الصدق من الكذب عن طريق المطابقة بين الدلالة اللغوية والطبيعة؛ لأن ذلك من شأن علماء الطبيعة، بما لديهم من أدوات للتجربة».

لكن هذه الفلسفة لاقت نقدًا شديدًا من توجهات فلسفية أخرى، خاصة فلسفة المذهب العقلي، التي ترى أن بناء العقل يتم عن طريق العلم وليس طريق الحواس، وقد دار حوار ونقاش بين المفكر والكاتب المعروف عباس محمود العقاد، وزكي نجيب محمود بعد صدور الأخير كتابه :(المنطق الوضعي).

ويقول د. زكي عن قصة اعتناقه الفلسفة الوضعية في كتابه (قصة عقل): «لا أظنني مسرفًا إذا في القول إذا زعمت بأنني منذ تلك اللحظة من ربيع سنة 1946 وحتى الساعة أقصد (1982)، ظللت داعيًا إلى تلك الوقفة الفلسفية العلمية في كل ما كتبته بطريق مباشر وبطريق غير مباشر مرات، فكانت الدعوة بالطريق المباشر كلما أخذت أتناول الموضوع بالشرح والتوضيح، وكلما كان موضوع الكتابة شيئًا آخر غير الفلسفة كالنقد الأدبي مثلًا». وأكثر المواقف الفلسفية التي تحدد موقف د. زكي نجيب محمود في موقفه تجده أكثر وضوحًا في كتابه (المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري)، الذي أوضح فيه المعقول وغير المعقول، كما تستند للوضعية المنطقية، لكنه أقل صرامة من الفلسفة نفسها التي اعتنقها في بداية حياته مع الفلسفة الوضعية في الأربعينيات، وفي هذا الكتاب، عقد مقارنة بين رؤية المثاليين للعقل والتجريبيين الذين يمثلون الوضعية المنطقية فيقول في هذا الكتاب: «تتردد في عصرنا هذا كلمة « اللامعقول» على ألسنة المتحدثين وأقلام الكاتبين ـ خصوصًا في مجال النقد الأدبي ـ بحيث كثرت معانيها وتشعبت ما يحتم علينا تحديد ما نريده نحن بهذه الكلمة في سياقنا هذا، وأول ما يرد إلى الخاطر هو أن ننظر في معنى العقل «العقل» فيكون معنى «اللاعقل» هو نقيضه.

لكنك ما تكاد تبدأ في تعريف العقل مستعينًا في ذلك بما تعلمه من فكر فلسفي حتى تجد المسالك أمامك قد تفرقت مذاهب، وعليك قبل التعريف أن تحدد لنفسك وقفة فلسفية عامة لتأخذ من معاني العقل ما يناسب تلك الوقفة المختارة ، فلو كنت نصيرًا لما يسمونه بالمصطلح الفلسفي «مثاليًا»، أو «عقلانيًا»، كان معنى العقل عندك هو أن يولد الإنسان، وفي فطرته مبادئ أولية تقام عليها بعدئذ كل طرائق البرهان كأن تولد مثلًا وفي فطرتك علم بأن النقيضين لا يجتمعان معًا في شيء واحد ومن جهة أخرى واحدة وفي لحظة بعينها، بحيث تحس بالرفض منبعثًا من فطرتك، وعلى أساس طائفة من هذه المبادئ الأولية الفطرية يمكن للإنسان «العاقل»، أن يقيم بناء «المنطق» بشتى صوره المجردة وسيلة في استدلال صورة فطرية من صورة فطرية أخرى».

واستطرد د. زكي في الكتاب نفسه بقوله: «وليس بعسير على القارئ أن يرى كيف يضيق هؤلاء الناس حدود العقل، حتى لا يكاد ينصرف إلا إلى التفكير الرياضي وحده؛ لأن الرياضة هي التي تولد الأفكار بعضها من بعض على هذا النحو، أما إذا اهتدى الإنسان في حياته بما يقع له في خبراته فليس ذلك عندهم عقلًا». ـ وهذا لا يتفق مع رؤى أصحاب الوضعية المنطقية ـ كما يقول د. عبد الرحيم محمد عبد الرحيم ـ إذ «يدخلون في حيز المعقول أمورًا لم يدخلها المثاليون فيه.

مثل طريقة التعرف على السائر على الرمال من خلال التعرف على الآثار التي تركتها قدماه، فالمثاليون لا يعدونها من المعقولات لعدم قيامها على البرهان المعتمد على المبادئ الفطرية، أما التجريبيون فيرونها معقولة لاحتمال تجربتها حسب معطيات الحس».

لكن الدكتور زكي تراجع بعد أكثر من 40 عاما عن تلك النظرة الحدة للوضعية المنطقية، ومنها أنه بتغيير عنوان كتابه الموسوم بـ (خرافة الميتافيزيقيا) إلى (موقف من الميتافيزيقيا)، وفي كتابه (قصة عقل) وهو الكتاب الذي يعد بمثابة سيرته الذاتية، أشار إلى الكثير من مراجعاته الفكرية لمسيرته الفلسفية، بعد الذي تعرض له من النقد، خاصة الفلسفة الوضعية، يقول في هذا الكتاب عن الوضعية المنطقية: «طالما قوبلت بهجوم واستنكار من نقاد ذهب بهم الظن بأن شروط التجريبية العلمية المقصود بها أن تقيد كل ضروب القول بغير تحديد، فإذا كان أمرها كذلك فيا للهول؛ لأن لدينا كلامًا من أعز الكلام على نفوسنا وأغلاه بعيد بطبيعته كل البعد عن أن يقبل التقيد بتلك الشروط، فمثلًا إذا قلنا أن كل جملة مطالبة ـ كي تكون مقبولة من الناحية المنطقية ـ بأن تكون صورة مطابقة مع واقعة من الوقائع الممكنة تلقيها الحواس البشرية، وإلا كانت غير ذات معنى، فقد يعترض علينا مستنكرًا قائلا: ما قولك.. إذن في جملة تتحدث عن الملائكة، بل عن الله سبحانه وتعالى، وما أكثر ما سمعت اعتراضات من هذا القبيل!، فلو أن هؤلاء المستنكرين وضعوا نصب ذاكرتهم دائمًا هذا الذي أسلفته وهو أن شروطنا موجهة نحو ميدان واحد فقط، هو ميدان العلوم الطبيعية وحدها لما اعترضوا وما استنكروا».

وهذا يعني أن الدكتور زكي نجيب محمود يريد أن يوضح للذين ينتقدون الفلسفة الوضعية، بأنها تنحصر في الرؤى الفلسفية المتعلقة في العلوم، وليس في غيرها من المجالات، لكن الفلسفة الوضعية في أصلها كما ظهرت في الغرب، تعرضت للقضايا اللاهوتية والوجدانية والتصوف، وغيرها من المجالات التي لا تدخل في العلوم التجريبية، لكن د.زكي نجيب محمود تراجع عن بعض ما كان يقوله في بداية حماسته لهذه الفلسفة، وهذا ما كتبه في كتابه :(قيم من التراث)، فيقول: «فلقد مرت أعوام، كنت خلالها أنا وزملائي من أساتذة الفلسفة، نعترك اعتراكًا علميًا حول ماذا تكون النظرة الفلسفية الصحيحة، فكان منهم من يقول إنها النظرة المثالية، ومعناها عند المشتغلين بالفكر الفلسفي أولوية الفكر الخالص على تجربة الحواس، وكان منهم كذلك من يقول إنها النظرة الوجودية، ومعناها أن تكون حرية الإنسان في اتخاذ قراره مكفولة له، ليكون بعد ذلك مسؤولًا مسؤولية خلقية، فالإنسان لا تصنعه العوامل من خارج نفسه، بقدر ما يصنع هو نفسه بما يتخذه من قرارات - بإرادته الحرة - في مواقف حياته المختلفة، وكنت أنا أذهب إلى أن النظرة الفلسفية الصحيحة هي ما يجعل المعرفة العلمية موضوعه الرئيسي، وما يجعل لشهادة الحواس المنزلة الأولى في الحكم على تلك المعرفة بالصواب أو بالخطأ ... إلى آخر ما كان بيننا من اتجاهات متعارضة».

ـ مضيفًا ـ لكنني فيما بعد سألت نفسي في لحظة نضج أهي اتجاهات متعارضة حقًا؟ أم هي في حقيقة أمرها اتجاهات متكاملة، بمعنى أن النظرة الصائبة صوابًا كاملًا، هي تلك التي تجمع تلك الاتجاهات كلها في رقعة واحدة؛ ولقد وضح لي هذا الرأي وضوحًا أصبحت معه في عجب من نفسي (وفي عجب من سائر الزملاء في معاركهم الفكرية) كيف سبق إلى ظني أنه إما علم تجريبي وإما لا شيء؟ إن حياة الإنسان فيها عدة جوانب، ولا يتكامل الإنسان إنسانًا إلا بها جميعًا: فهو يحيا حياة علمية، ويحيا حياة فنية خلقية دينية، وهو يحيا مواطنًا بين غيره من المواطنين في مجتمع واحد، وهكذا؛ فإذا كنت قد اخترت فيما سبق اتجاهًا فلسفيًا يهتم بجانب الحياة العلمية، فلم يكن ذلك ليعني ألا يهتم غيري بجانب آخر من سائر الجوانب، التي من مجموعها يتكون الإنسان؛ فالأمر في هذا شبيه بجماعة من الناس، وقفوا جميعًا ينظرون معًا إلى منظر واحد، لكن كلًا منهم أخذ ينظر إليه من زاويته الخاصة، فأحدهم يفكر لنفسه: هل يصلح هذا المكان لإقامة ملعب للكرة ؟ وآخر يفكر لنفسه ماذا لو أحضرت أدواتي غدًا وجلست أرسم هذا المنظر، فهو أخاذ بتكويناته وخطوطه وألوانه؟ وثالث يفكر لنفسه متسائلًا كيف لم يحدث له أن يصطاد السمك من النهر الجاري هناك؟ ورابع، وخامس...فالمكان الذين ينظرون إليه يسع هذا كله؟ أفنقول في هذه الحالة إن اتجاهات أولئك «متعارضة»؟ أم الأصوب أن نقول عنها إن بعضها يكمل بعضها؟».

ومن الفلاسفة التي انتقدوا الوضعية المنطقية، الفيلسوف النمساوي «كارل بوبر» الذي حمل عليها بشدة بسبب استبعادها الميتافيزيقا وتقديم قضايا اللغو وتحليلها على مسائل مهمة في العلوم الإنسانية، وهذا يؤكد أن رفع شعار المنهج العلمي والتجريبي، لا يجعلها معصومة من النقد والاتهام، وهذا ما حصل فعلًا.

ومن النقد الموجه للوضعية المنطقية أنها ـ كما يقول د. صبري محمد خليل ـ إن الوضعية المنطقية: «اقتصرت على الحواس كوسيلة للمعرفة، ومبدأ التحقق كمعيار وحيد تحدد للمعرفة، دون الانتباه إلى إمكانية إضافة وسائل أخرى كالعقل تحدد المعرفة الحسية ولا تلغيها. غير أن الوضعية المنطقية الفضل في رفض إحدى دلالات مفهوم الميتافيزيقا وهو القول بتوافر إمكانية العقل الإنساني (المحدود) للوجود الغيبي (المطلق) كما كان سائدًا في الفلسفة الغربية اليونانية والحديثة عند المثاليين غير أنها ألغت دلالة أخرى لمصطلح الميتافيزيقا هو الإيمان، أي الإقرار بوجود غيبي مفارق للوجود الشهادي المحسوس، والوحي كوسيلة لمعرفته. كما أنها ساهمت في نقد المثالية التي استغلت لانهائية تراكيب اللغة لتفصل الفكر عن الواقع».

ولاشك أن د. زكي نجيب محمود في السنوات الأخيرة من حياته، خاصة بعد تعاقده مع جامعة الكويت أستاذًا للفلسفة لعدة سنوات، بدأ يراجع مسلماته بعد قراءته في التراث العربي الإسلامي، من خلال مكتبة الجامعة بالكويت، وهذا ليس، كما قال منتقدوه الذين أشرنا إلى كتاباتهم في بعض المقالات السابقة إن أقواله الأخيرة التي ناقض فيها رؤيته السابقة كما ـ قالوا عن مراجعاته ـ عبارة عن (عقل مراوغ)، وهذا للأسف نظرة حدية للأفكار، التي من الطبيعي أن تراجع، وأن يتم تقييم المسار الفكري، وأن تتغير النظرة مرة أخرى، إذا عرف المرء أن تلك الفكرة يشوبها القصور والضعف في منهاجها، وهذا ما فعله زكي نجيب، وغيره الكثير من المفكرين والعلماء في حياتهم الفكرية والفلسفية مثل عبدالوهاب المسيري ومحمد عمارة، ومحمد عابد الجابري وغيرهم.

إخترنا لك

0 تعليق