في عام 1979، اجتاحت إيران ثورة غيّرت وجه البلاد والمنطقة بأكملها، عُرفت بثورة الأشرطة، نسبة إلى تسجيلات صوتية للخميني التي كانت تُهرّب وتُوزّع سراً في الأسواق ودور العبادة، مُشعلة شرارة الغضب الشعبي ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي. لم تكن الثورة مسلّحة، بل اعتمدت على الكلمة، وعلى قدرة الصوت في تحريك الملايين، وصولاً إلى سقوط النظام الملكي وقيام ما يسمى بالجمهورية الإسلامية.
لكن وبعد أكثر من أربعة عقود، يقف الشعب الإيراني على مفترق جديد، وهو يتساءل: هل تحقّق ما وُعد به من عدالة وحرية وكرامة؟ الواقع يشير إلى العكس. فإيران اليوم ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، نسب بطالة مرتفعة، وتضييق ممنهج على الحريات الشخصية والعامة، بما في ذلك حرية التعبير، وحقوق النساء، بل وحق الحياة ذاته.
ومن أبشع محطات القمع في تاريخ الجمهورية الإسلامية ما حدث في صيف عام 1988، حين أعدمت السلطات الإيرانية الآلاف من السجناء السياسيين، دون محاكمات عادلة، بناءً على فتوى أصدرها المرشد الأعلى الخميني. وقدرت بعض المصادر الحقوقية، أن عدد الذين تمّ إعدامهم قد يصل إلى 30 ألف سجين سياسي، معظمهم من أعضاء ومؤيدي منظمة مجاهدي خلق وفصائل يسارية مثل حزب توده وفدائيي الشعب وتشير شهادات ناجين وتقارير دولية إلى أن هذه الحملة كانت ممنهجة ومنظمة بشكل واسع النطاق، واستهدفت تصفية المعارضين السياسيين بشكل شبه كامل في بعض السجون.
المفارقة أن ما لم تقم به السياسة، بدأ ينجزه الفن والثقافة. فالفنان العالمي إد شيران، في أغنيته عزیزم، قدّم لمحة عن إيران ما قبل الثورة، بلغة موسيقية عالمية، تُبرز روح مجتمعٍ كان ينبض بالحياة والانفتاح والحداثة. هذه الأغنية لم تكن مجرد عمل فني، بل شهادة على أن العالم لايزال يذكر إيران الأخرى، تلك التي حاولت الثورة الإسلامية طمسها.
والأكثر دلالة على التحول الجاري اليوم، هو ما نشهده من تحديات علنية لنظام ولاية الفقيه من داخل المجتمع الإيراني نفسه. حفلات غنائية في طهران، مهرجانات موسيقية في بوشهر، شباب وشابات يرقصون في أماكن عامة، في كسر صريح للقوانين التي طالما قُمعت بها أبسط مظاهر الفرح. لم تعد هذه المشاهد تُعتبر مجرد خروقات فردية، بل باتت مؤشرات على ثورة ثقافية صامتة، لكنها عميقة ومتصاعدة.
هذه المظاهر لا تقل خطورة على النظام من المظاهرات السياسية، لأنها تعبّر عن رفض وجودي لما يمثّله، وللقيم التي حاول فرضها على مدى أكثر من أربعة عقود. إنها ثورة على مستوى الهوية، على شكل الحياة، وعلى حق الإنسان في أن يكون حراً في فرحه كما في رأيه.
في نهاية المطاف، ما بدأته الثورة الإيرانية بأشرطة الكاسيت قد يُستكمل اليوم بأغانٍ تُغنّى في الميادين، وبخطى راقصة تتحدى السكون. وإذا كانت الثورة الأولى قد أسقطت الشاه فإن الثورة القادمة لا تسعى فقط إلى تغيير نظام، بل إلى استعادة روح أمةٍ أُخمدت لعقود. إنها ثورة تُولد من رحم الثقافة، تُغذّيها ذاكرة الألم، وتدفعها رغبة عميقة في الحياة والحرية والكرامة.
0 تعليق