كيف يوظف الاحتلال الأقليات في سورية لخدمة عقيدته الأمنية؟

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

عواصم - في واحد من أقسى مشاهد الخزي الوطني والقومي، انتهكت طائرات الاحتلال الإسرائيلي أول من أمس سماء سورية، وهذا أمر ليس جديدا، لكن المفارقة الأشد حرجا أن حكومة الاحتلال زعمت أنها تدافع عن الدروز الطائفة السورية التي عرفت طوال تاريخها بأنها من أشد المدافعين عن عروبة سورية واستقلالها.اضافة اعلان
ما جرى يعكس مفارقة قاسية في تاريخ سورية الحديث. ولعل هذا يذكر بخزي قديم، ففي صيف عام 1982، اجتاحت القوات الإسرائيلية جنوب لبنان تحت غطاء عملية "سلامة الجليل"، لكن الهدف لم يكن فقط طرد منظمة التحرير الفلسطينية، بل التأسيس لتحالف إستراتيجي مع الطائفة المارونية، بوصفها الحليف الأكثر قابلية للتموضع في "شرق أوسط جديد" قائم على كيانات طائفية متناثرة. وقد دعمت إسرائيل حينها صعود بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية، ونسّقت عسكريًا مع ميليشيات "القوات اللبنانية"، التي سرعان ما ارتكبت مجزرتي صبرا وشاتيلا تحت أنظار جيش الاحتلال الإسرائيلي. لقد مثّلت تلك اللحظة الذروة العلنية لاستراتيجية الاحتلال الأمنية العميقة وهي تفتيت الكيانات العربية المركزية عبر بوابة الأقليات، وتحويل الطائفة إلى شريك سياسي وظيفي يخدم توازنات الهيمنة.
وتروج إستراتيجية الاحتلال الإسرائيلي مجموعة من المقولات أبرزها ان الأقليات في المشرق العربي (الدروز، العلويون، المسيحيون، الأكراد، والإسماعيليون) تعيش في ظل قلق وجودي مستمر، خاصة في ظل ما تعتبره تل أبيب "تهديد الأغلبية السنية ذات التوجهات الإسلامية". ومن هنا، ترى إسرائيل في هذه الأقليات شركاء محتملين، أو على الأقل أطرافا قابلة للاستثمار في الصراع طويل الأمد الذي يدور في جوارها. لكن العلاقة ليست متساوية، ولا تُبنى على أسس تحالف صريح، بل غالبًا ما تُدار عبر رسائل غير مباشرة، دعم إنساني انتقائي، وتنسيق لوجستي محدود في مناطق النفوذ. كما أن هذه الطوائف جزء أصيل من مكونات الشعب السوري تاريخيا. فكيف تسعى إسرائيل إلى خلخلة هذا النسيج؟
ويُعرف الدروز تاريخيا بأنهم حاملو لواء استقلال الدولة السورية من خلال رمزهم التاريخي سلطان باشا الأطرش الذي يوصف بأنه قائد الثورة السورية الكبرى التي قاتلت الاحتلال الفرنسي.
لكن الأزمة السورية الحالية تباعد بين بعض قياداتها وبين القيادة الجديدة التي تتولى السلطة منذ سقوط نظام الأسد، علاوة على انقسام الدروز أنفسهم بين تيارات وفئات تؤيد التقارب مع السلطة الجديدة بوصفها رمزا للدولة السورية وبين فئات أخرى تناوئ دمشق لاعتبارات فكرية وسياسية معقدة.
ولعل وجود جزء من الطائفة الدرزية المنضوية تحت سلطة الاحتلال في الأراضي المحتلة، يخلق نوعا شائكا من العلاقة بين الدروز وكيان الاحتلال من جهة، وبين الدروز والدولة السورية من جهة أخرى.
ورغم أن بعض الزعامات الدرزية السورية أعربت عن قلقها من هذا التقارب العلني، خشية أن يُنظر إليهم كعملاء، فإن دولة الاحتلال ما تزال تستثمر في خطاب "الحماية"، وتروّج لنفسها كضامن لوجود الدروز في منطقة تشهد تمدد الجماعات السلفي، حسب زعم الاحتلال.
هناك حرج تاريخي يعاني منه الدروز في المنطقة العربية، فزعيم الدروز في كيان الاحتلال موفق طريف يروج سردية نتنياهو، وطائفته نفسها ترتبط مع الاحتلال بحلف تاريخي يسمى "حلف الدم". وفيما كان كيان الاحتلال يقصف أحياء في دمشق أول من أمس، كان طريف يتفاخر أن ثمة تغييرا كبيرا سيحدث في المنطقة.
أما بالنسبة للعلويين فلا توجد معلومات مؤكدة عن تنسيق رسمي واسع النطاق بينهم وبين الاحتلال، وتشير مواقع وصحف إلى وجود اتصالات ومناشدات من بعض الأفراد أو المجموعات العلوية تنشد الدعم والحماية. لكن تظل هذه الاتصالات محدودة وغير معلنة رسميًا، وتعكس تعقيدات المشهد السوري الحالي وتعدد الأطراف الفاعلة فيه.
ووفقًا لتقارير إعلامية، هناك اقتراحات داخل أوساط دولة الاحتلال الإسرائيلي لدعم العلويين بشكل سري، بهدف تمكينهم من الدفاع عن مناطقهم واستنزاف خصوم مشتركين، مثل "الجماعات الإسلامية ". وتؤكد هذه التقارير على أهمية السرية في أي تنسيق محتمل، لتجنب ردود فعل سلبية من الأطراف الأخرى في المنطقة.
ورغم أن الاحتلال يسعى إلى بناء علاقات مع الأقليات في سورية، إلا أن المسيحيين السوريين لم يُظهروا اهتمامًا علنيًا بالتعاون معهم.
أما الطائفة الإسماعيلية، المتمركزة في مدينة السلمية وبعض نواحي حماة، عُرفت باعتدالها الفكري. واتسمت الطائفة تاريخيًا بموقفها المعارض للنظام السوري، حيث شارك العديد من أبنائها في الاحتجاجات السلمية التي اندلعت في عام 2011.  ومع ذلك، تعرضت الطائفة لضغوط من مختلف الأطراف، بما في ذلك النظام السوري والجماعات المسلحة، مما أدى إلى انقسام داخل الطائفة بين مؤيدين ومعارضين للنظام.
ولم يُسجل أي مؤشرات على تقارب أو تواصل مع الاحتلال ما يجعل الإسماعيليين خارج دائرة "التحالف الوظيفي" الذي تحاول تل أبيب بناؤه في سورية.
أما الاكراد فمنذ ستينيات القرن الماضي، سعى الاحتلال إلى بناء علاقات سرية مع القوى الكردية، خاصة في شمال العراق بقيادة مصطفى البرزاني، وذلك في إطار هدفها الإستراتيجي بإضعاف الدول العربية المركزية. ودعمت تل أبيب الأكراد عسكريا ولوجستيا، بهدف استنزاف العراق ومنعه من التحول إلى قوة إقليمية تهدد أمنها. هذه العلاقة لم تكن قائمة على دعم "حق تقرير المصير" بمفهومه التحرري، بل على توظيف الأقليات القومية في خدمة مشروع الاحتلال الأمني، الذي يقوم على تفتيت الدول المحيطة إلى وحدات إثنية قابلة للضبط.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، رأت دولة الاحتلال في تمدد القوى الكردية المسلحة مثل وحدات حماية الشعب فرصة نادرة لإضعاف سورية وإزاحة مركزيتها، وربما دعم قيام كيان كردي مستقل بحكم الأمر الواقع. وبالرغم من أن الدعم العلني للأكراد جاء من الولايات المتحدة، فإن تل ابيب رأت فيهم حليفًا "وظيفيًا" بوجه خصومها الإقليميين، دون أن تترجم ذلك إلى اعتراف دبلوماسي أو سياسي. فالأكراد في نظرها "شريك دون دولة"، يمكن الاستفادة منه ما دام يتقاطع مع أهدافها، والتخلي عنه عند تبدّل الظروف. 
ومن الاهداف الاخرى للاحتلال بمنغاة الاقليات، يكمن في أنها دولة الاحتلال قامت على أساس ديني وإثني (دولة يهودية للشعب اليهودي)، فهي تجد في الدولة الوطنية العربية الحديثة القائمة على الانتماء القومي والهوية الجامعة تهديدًا وجوديًا. ولذلك، فإن خلق محيط مماثل لها، أي ممزق إلى "هويات فرعية" (دروز، سنة، علويون، أكراد، شيعة، مسيحيون، إسماعيليون…)، يسمح لها ألا تبدو استثناءً، بل نموذجًا آخر من "دولة الطائفة"، وسط طوائف متجاورة.
لا تبني دولة الاحتلال علاقاتها مع الأقليات السورية على أسس دبلوماسية أو اعتراف متبادل، بل على معادلات أمنية عابرة، تُستخدم بحسب الحاجة. وهي لا ترى في هذه المجموعات "أقليات" فقط، بل أدوات توازن، وصمامات أمان محتملة في صراع طويل على شكل الدولة والسلطة في سورية. لكن الرهان على الطائفة قد يكون خادعًا: فالأقليات ليست حلفاء طبيعيين ولا أدوات وظيفية، بل مجتمعات ذات إرادة وتاريخ، يمكنها أن تقاوم أو أن تنسحب، وقد تقلب الطاولة حين يُظن أنها مجرّد تفصيل.-(وكالات)
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق