لا خطر علينا من هذا المقال ولكن الصحافة عالميا في خطر

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ترجمة: أحمد شافعي -

في الشهر الماضي، أقر الرئيس الجورجي ميخائيل كافيلاشفيلي قانونا جديدا يوجه اتهامات جنائية ويعاقب بأحكام الحبس والغرامة أي منظمة أو فرد في حال عدم الانصياع لقانون «التأثير الأجنبي» الجديد في البلد.

لم يشغل القانون الصفحات الأولى في الجرائد العالمية فلم ينتبه إليه أحد تقريبا، لكنه يمثل نقطة تحول هامة في انحدار حرية الصحافة في العالم.

فقد فرض القانون الأصلي ـ الصادر في مايو من عام 2024 ـ على كل المؤسسات الإعلامية والمنظمات غير الحكومية المستقلة التي تتلقى أكثر من 20% من تمويلها من الخارج تسجيل نفسها باعتبارها «عاملة لحساب قوة أجنبية». وكانت قيرغيزستان قد اعتمدت في الشهر السابق قانونا مطابقا تقريبا. وفي أغسطس كان دور فنزويلا. وتركيا قدمت مشروع قانون في أكتوبر، قبل أن توقع باراجواي قانونها وتفعِّله في نوفمبر.

في غضون ما لا يزيد قليلا عن سبعة أشهر، غرقت بلاد في شرق أوروبا ووسط آسيا وأمريكا الجنوبية في هذه القوانين التي تقوم جميعا على فرضية أساسية واحدة هي أن من يتلقى من المنظمات والأفراد تمويلا أجنبيا لا بد أن يخطر الحكومة بأمره.

في ظاهره، يبدو هذا الأمر مبررا لحماية الأمن الوطني. فالتدخل الأجنبي خطر حقيقي للغاية على بلاد كثيرة، وبخاصة خلال الدورات الانتخابية. ففي العام الحالي وحده، شنت مجموعة من الجهات الأجنبية حملات معلوماتية مضللة ضخمة على انتخابات ألمانيا، ناشرة اتهامات زائفة مفادها أن مرشحي حزب (البديل من أجل ألمانيا) اليمينيين المتطرفين كانوا ضحايا لتزوير الانتخابات.

لكن الشيطان يكمن في التفاصيل. وفي حالة هذه القوانين، يكثر أن تغيب التفصيل غيابا مقصودا.

إذ أن قوة هذه القوانين تكمن في إبهامها ومطاطية صياغتها. والصياغة أمر يمكن بسهولة استعماله سلاحا لفرض العقوبات القانونية ولتشويه السمعة، بل لقد تم استعماله في ذلك فعليا، لدرجة أن يصبح عمل أي شخص أمرا مستحيلا، وبخاصة الصحفيين.

وإليكم مثالا نموذجيا هو قانون «العميل الأجنبي» في روسيا. لقد صدر القانون أول الأمر في أعقاب مظاهرات ضد رجوع فلاديمير بوتين رئيسا في عام 2012، ويعرِّف القانون «العميل الأجنبي» بأنه كل من يتلقى ـ فردا كان أم منظمة ـ تمويلا أجنبيا وينخرط في «أنشطة سياسية». غير أن تعريف «الأنشطة السياسية» شديد الإبهام بحيث يشتمل تقريبا على أي شيء يمكنه التأثير في الرأي العام، من استضافة فعالية تعليمية وحتى محض طبع استطلاعات رأي.

ولا يكاد هذا التصنيف ينطبق، حتى يتعين على الصحفي أو غرفة الأخبار التسجيل في وزارة العدل، ورفع تقارير دورية بالأنشطة التي يمارسونها والتمويلات والتفاعلات، مع التعرض لأحكام الغرامة أو الحبس في حال التخلف عن موعد تقديم هذه التقارير.

ويمكن تجميد أصولهم، وإغلاق حساباتهم المصرفية، ومنع التبرعات والمنح التي كانت تساعدهم على العمل. بل ويجري منعهم من دخول المؤسسات التعليمية من قبيل المدارس أو الجامعات أو دور الحضانة.

ومن بعد، هناك التلويث الاجتماعي. وهو متأصل في التسمية نفسها ـ أي «العميل الأجنبي». فقد اشتقت هذه التسمية عمدا من معجم التجسس، بهدف إثارة ذكريات كبار السن ممن عرفوا مصائر المواطنين الذين كانوا يوصمون بهذه الوصمة في حقبة التطهير السوفييتية من الاعتقال والإعدام والجولاج.

يصعب على الكثيرين احتمال هذا العبء. فمعروف أن 93% من المنصات الإعلامية المستقلة صارت مرغمة على الخروج من روسيا. والغالبية غادرت بيلاروسيا التي تبنت نسخة من هذه القانون أشد قسوة في عام 2023.

لكن حتى وهي في المنفى لا تستطيع أن تهرب من هذا التصنيف. فهي مطالبة بموجب القانون أن تشفع كل ما تنشره بإفصاح ينص أن «هذا منتج منظمة تعد عميلة أجنبية». وينطبق هذا حتى على أمر شخصي لا يتجاوز منشورا في فيسبوك. وكثيرا ما يكون هذا رادعا يمنع الجمهور في الوطن من قراءة منشوراتها، خشية أن يجتذب لنفسه رقابة الدولة إذ يربط نفسها بها. ويعد هذا التصنيف جزءا أصيلا من هوية الكثير من الصحفيين الروس والبيلاروسيين في الخارج لدرجة أن بعضهم يطبعه على القمصان بل ويجعلونه وشما على أجسادهم.

وللأمر تأثير مدمر على الأجيال القادمة من الصحفيين الناشئين في هذه البلاد، إذ يحد من طموحهم وقدرتهم على تطوير مهاراتهم في صناعة تتعرض للتشويه، وهو ما يتسبب في فجوة لا يكون فيها من مضاد لدعاية الدولة.

وسأكون ساذجا إن ظننت أن هذه المشكلة مقصورة على مثل هذه الدول. فمع ازدياد انتشار حملات المعلومات المضللة والتدخل الانتخابي، تدرس بلاد ديمقراطية كثيرة هذا النمط من التشريعات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر إيطاليا والمملكة المتحدة.

ولهذه الدول كل الحق في ذلك. ولكن لا غنى عن إيضاح التفاصيل. فكما رأينا في السنين الأخيرة، قد ينزلق بلد ديمقراطي إلى الاستبداد بسرعة. وحينما يحدث هذا، سوف يستغل القادة المستبدون ميزة هذه القوانين الفضفاضة، وإن تكن حسنة النوايا، في استئصال المعارضة.

وثمة أدلة على أن حملات الضغط الاستراتيجي والدولي ـ وبخاصة إن ارتبطت باستمرار الاستثمار الأجنبي المباشر في هذه البلاد ـ قد تكون فعّالة في إعاقة القوانين الشبيهة بقوانين العملاء الأجانب. فعلى سبيل المثال تم سحب مشروع قانون في تركيا سنة 2024 بفضل تنسيق جهود بين جمعيات قانونية وجماعات مناصرة لحقوق الإنسان ومنظمات مدافعة عن حرية الإعلام.

لكن الضرر في بلاد كثيرة وقع بالفعل. فيحتاج أولئك الصحفيون وغرف الأخبار، سواء أهم في المنفى أم مقيمون في الوطن لمواصلة النضال، أكثر من ذي قبل إلى التمثيل والتوجيه القانونيين.

منذ عام 2022، تقوم منظمة طومسن رويترز بدعم غرف الأخبار المستقلة المنفية في مواصلة عملها في ولايات قضائية جديدة وفي تأسيس قدرة قانونية لمقاومة هذه «الحرب القانونية».

لقد كانت جورجيا تبدو للكثيرين مكانا محايدا يعيدون فيها ضبط أوضاعهم. إذ كان بوسع الصحفيين الروس على سبيل المثال أن يسافروا بحرية إليها مستغلين المعبر الحدودي في سرعة الحركة. ولكننا تعرضنا للدمار هذا العام حين اكتشفنا أن بعض أوائل غرف الأخبار التي ساعدنا في إقامتها في المنفى قد اضطرت إلى الفرار مرة أخرى.

الواقع أن الصحفيين يتعرضون للمطاردة عبر الحدود بسبب قوانين شبيهة بقانون العميل الأجنبي، ويتعرضون للملاحقة والتحرش من بلد إلى التالي له. فهذا وقت مثير للقلق للغاية، لكننا نضاعف العمل. ونحن قادرون على الاستجابة، وسوف نستجيب.

أنطونيو زابولا الرئيس التنفيذي لمؤسسة طومسن رويترز.

عن صحيفة الجارديان البريطانية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق