مجتمع «العلامة التجارية».. معترك مادي بامتياز

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

التصنيف العلمي للمجتمعات الإنسانية (ريفي، قروي، حضري، مدني) بقدر ما يتموضع حول فئة اجتماعية معينة تشخص نفسها على أنها تقود الفئات الأخرى نحو مختلف الصور الاحتفالية في ذات المجتمع الصغير (القرية، المدينة) .

أو في المجتمع الأكبر (الدولة) وذلك من خلال استخدام علامات تجارية مختلفة ومتنوعة، وهي بذات هذه المظاهر تعد اليوم أحد إفرازات المجتمعات الحديثة المركبة.

وبهذا التصور يشار إليها بمسمى «مجتمع العلامة التجارية» -وفق بعض التعريفات- وبظهور هذه الفئات بين أحضان المجتمع، يدخل المجتمع ذاته في حاضنة المجتمعات المركبة التي تتجاوز مفهوم المجتمعات الصغيرة القائمة على كثير من الممارسات البسيطة غير المعقدة، وهي المجتمعات التي تلجأ في كل ممارساتها على استخدام القيم الاجتماعية المتمثلة في التعاون، والتكاتف، والتكامل، ومراعاة المشاعر، وذلك للتقليل من التباينات المختلفة والمفضية إلى كثير من القلق وعدم الاطمئنان، حفاظا على نوع من التآلف بين أفراد المجتمع الواحد، وعدم الظهور بمظهر الاستعلاء الذي يضرب الإنسانية في مقتل.

ينظر إلى هذا النوع من المجتمعات على أنه أحد إفرازات المجتمعات الحديثة، وهي المجتمعات التي يغلب عليها قلة التماسك الأخلاقي بين أفراد المجتمع، حيث تظهر المادة الجافة كمحدد مهم لقيمة الفرد في المجتمع، حتى ولو كان هذا المجتمع على مستوى القرية، وليس المدينة فقط، ذلك أن ما يحدث التباينات بين أفراد المجتمع الواحد ليس فقط الوجاهات التقليدية المتوارثة، وإنما يدخلها اليوم محدد آخر، وهو تنوع العلامات التجارية، وتعقدها بناء على قيمتها المادية، مما يحفز الأفراد أكثر على المغامرة بالدخول في هذا المعترك المعقد دون تفكير، مما يسبب في دفع أثمان باهظة التكاليف، حيث يصبح الفرد مأسورا طوال حياته بالديون والالتزامات المالية الكبيرة التي تصل إلى عشرات الآلاف من الريالات دون ضرورة ملحة إلى ذلك.

فاليوم؛ لا مبالغة في القول؛ إن قيل لك إن دخول الأسواق أصبح يبعث على الخوف، والخوف هنا ليس ذلك الذي قد يؤول إلى إنهاء حياتك، أو إحداث الضرر المادي على جزء من جسمك، ولكن الخوف هنا ذلك الذي يربك حساباتك البنكية إن كان لك رصيد تقتات منه إلى نهاية شهرك الحالي، فقبل أن تفكر في شراء زجاجة عطر -مثلا- عليك أن تفكر في كيفية ملء أفواه أطفالك؛ الذين؛ ليس شرطا أنهم يتضورون جوعا في منزلك الذين يعيشون بين جدرانه الأربعة -فما بين زجاجة عطر وجونية أرز- هناك أيضا علامة تجارية تغازلك من بعيد بوهج صورتها الاحتفالية، فنوع من العطر يصل سعره إلى (3000) ريال عماني للتولة، وهناك جونية أرز؛ ربما؛ تتعدى قيمتها الـ(50) ريالا عمانيا؛ وإذا كان هناك مبرر لتولة العطر، كي يشم رائحته الآخرون، ويسألك عنه الآخرون؛ وهنا مربط القصيد، فإن جونية الأرز لن يسألك عنها هؤلاء الآخرون ذاتهم، ولكنك قد تتباهى في مجالسك بين القوم أنك تأكل نوع العلامة التجارية «الفلانية» فالذائقة الأسرية لم تعد تستسيغ أنواع العلامات التجارية المتداولة التي يأكلها العامة من الناس، هكذا تُشعِر محدثيك، وأنت تشرح لهم مميزات علامتك التجارية المميزة.

قد يذهل البعض؛ عند سماع: أن فلانا من الناس اشترى رقم هاتف، أو رقم مركبة بسعر خيالي يفوق فهم الذاكرة التي لم تعتد على الأرقام «الـنارية» لقيم السلع؛ خاصة عندما يتوقف الأمر عند «رقم» ولكن هذا «الرقم» الذي لا يحجز لنفسه مساحة من الاهتمام عند الذي لا تستهويهم العلامات التجارية، هو ذات الرقم الذي تتسع له المساحة من الاهتمام عند فئات أخرى، وترى فيه هويتها، ومكانتها، وعنوان بهجتها وقيمتها، وحاضنتها، لأنها سوف توسم بها في صباحات اليوم ومساءاته، ويشار إليها من خلاله بالبنان، فيتسع لها المكان، وتنزل المنزلة المباركة، من دون جهد منها، وبذلك هي -أي الفئة- تتحول إلى علامة تجارية بامتياز، قد تعفيها من كثير من الحرج، للمطالبة بأشياء تود امتلاكها، أو الاستحواذ عليها، حيث ستسعى فئات أخرى «مرتزقة» لأن تمهد الطرق، وتفتح الأبواب المغلقة لهذه العلامة التجارية والمتشكلة من رقم، وما يقاس على الرقم، يقاس على نوع العطر المستخدم، وعدد أنواع الهواتف النقالة المستخدمة في ذات اللحظة، وأنواعها، وقيمها، وعلاماتها التجارية، كما يقاس على أنواع المركبات كذلك، وأنواع الملابس، والذوق الرفيع في اختيار ألوانها، وتنسيقاتها، فالبذخ لا بد أن تكتمل أركانه الأساسية، من: نوع العلامة التجارية، والقيمة المالية، والألوان الذهبية، وتباينات الأحجام، والمميزات الفنية الأخرى، بما يؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي تصنيف الفرد على أنه من فئات المجتمع المركب، وهو مجتمع معقد إلى درجة كبيرة، لا يحتمله من يكون في المجتمع البسيط، القائم على مستويات الحاجة فقط، وليس الرغبة بحمولتها المادية الضخمة؛ التي تستهلك الشيء الكثير من الجهدين المادي والمعنوي، في مقابل أن تكون مميزة بعلامة تجارية معينة، أو بعلامات متعددة.

تتهم المدن غالبا؛ باحتواء المجتمعات المركبة، وأن صور العلامات التجارية لا تزهر إلا في المدن، لأن المدن حالتها المعقدة، لا تظهر فيها التفاصيل الصغيرة، التي تتقصى الجوانب الإنسانية الصغيرة؛ فهي تذهب مباشرة إلى اللافتات الكبيرة المعبرة عن العلامات التجارية، فحيثما تكون علامة تجارية مميزة، تكون، في المقابل، جمهرة الناس، وهناك الناس لا يتعارفون بقيمهم الإنسانية، وإنما بأوزانهم المادية، وبالتالي ترى ذلك الاصطفاف الكبير والكثير من السيارات الضخمة، ومن الشخصيات المحيطة نفسها بالبذخ الواضح من الملابس والعطور، والصورة الاحتفالية الأخرى، وبالتالي فلا بد أن تغازل المدن مرتاديها بنوع من العلامات التجارية المعروفة، ولذلك يجازف أبناؤها بالذهاب إلى حيث تتطلبه منهم مدينتهم، فيظهرون بمظاهر الترف، خوف الوقوع في مأزق التقييم عند بعضهم البعض؛ خاصة عندما يجتمعون، ولذلك تشتبك العلامات التجارية فيما بينهم، فيقعوا في مأزق التصنيف، وقد يصاحب ذلك الكثير من الهمز واللمز، وبالتالي ينظر إلى من لا يكون بمستوى علامة تجارية ما، على أنه متخلف، ويحتاج إلى كثير من الجهد حتى يلتحق بالركب، فتبدأ عندها حالة من التنافس على اقتناء العلامة التجارية التي تؤسس للذين للتو يبدؤون حياة البذخ المفرط مكانة بين الذين سبقوهم، وكأني أرى حالة من المعاناة، ومن الارتباك، ومن القلق، وعدم الاطمئنان، وكأنني أتساءل كيف يستطيع أن يتأقلم من هم الآتون من المجتمعات البسيطة والمنضمون؛ حديثا؛ إلى المجتمعات المركبة، وسط هذه الصور من النزاع بين الذوات المعقدة؟ فالآتي من مجتمع القرية أو الريف؛ يقينا؛ سوف يعاني، فللمدن استحقاقاتها غير المنكورة، ومن لا يستطيع أن يتأقلم وفق استحقاقات المدنية عليه أن يرجع إلى قريته التي لا تزال تستحم من دروبها المتقاطعة بساطة العيش، وسهولة الحياة، فاتساع البيادر في أطراف القرى تعطي نفسا يوسع من مسارات الهواء النقي بين شعبيات الرئات التي تستنشق عطر الأزاهير التي توزعها النسائم.

الظهور بمظهر احتفالي في المناسبات العامة والخاصة، واستعمال العلامات التجارية ذات البعد المادي الكبير والمعقد، لإظهار هيبة الانتماء الأسري، أو الوجاهي، أحد إفرازات نتائج العلامات التجارية، وهذا مما يراكم من مفهوم المجتمعات المركبة، ويزيدها تعقيدا، وهذه أيضا ليس ما يفسره القول بأن: «اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻟﺪﻳﻪ ﺗﻤﺎﺳﻚ أﺧﻼﻗﻲ أﻗﻞ، ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﻮﺟﻮدًا ﻓﻲ اﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ» فالتماسك الأخلاقي هنا لا يذهب إلى مفهوم السلوك في شأن الاحترام والتقدير للآخر؛ إطلاقا؛ وإنما يذهب أكثر إلى إعطاء الذات الكثير من الاهتمام، بحيث لا يحدث تباينات واضحة بين مجموعات الذوات في مجتمع العلامات التجارية، لأنه أن حدث تباين كبير بين الأفراد من ذات الفئات، فعلى الفئات الأقل حظا في الاستحواذ على العلامات التجارية أن تنسحب من ذلك الوسط، وتبحث لها عن مجتمع أقل، لكي تستطيع أن تعيش بلا قلق وارتباك؛ لأنها لن تستطيع أن تعامل الآخرين من حولها بالمثل، وهذه إشكالية موضوعية في مفهوم العلاقات الإنسانية بشكل عام، وليس الأمر مقتصرا فقط على مجتمع العلامات التجارية دون الأخرى، ولكن يأتي مجتمع العلامات التجارية ليراكم من مسألة التباينات، وهي تباينات مادية أكثر منها معنوية، حتى نضع في تقييمنا بصيص أمل لشيء من القيم الإنسانية في مختلف المجتمعات الإنسانية، بغض النظر عن تصنيفها المادي.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق