استدعاء الألم في مجموعة «كيف نضحك أمام القتلة؟» لسماء عيسى

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يطل علينا الشاعر سماء عيسى بمجموعته الجديدة الصادرة عن دار نثر هذا العام وهي تحمل عنوانًا مازجًا بين البحث عن الضحك وبين القتل في عتبة تحاول أن تحمل معها القارئ إلى عوالم البهجة والسرور والبحث عن عالم أفضل من العالم الواقعي الممتلئ خرابًا ودمارًا وتشريدًا.

في العتبة الرئيسة للمجموعة يحيلنا الشاعر إلى سؤال منطقي في عالم جنائزي يضج فيه الدمار والخراب، وللوهلة الأولى تحس وأنت تحمل المجموعة الجديدة أنك أمام نصوص تدعو إلى الفرح والبهجة، وتقاوم القتل والموت والخراب بالابتسامة والضحك، لكن العتبة الثانية للمجموعة تُبدّد كثيرًا هذا الإحساس وتجعلنا أمام هاجسين: الضحك أو القلق من المجهول، ولعل الإشارة المتمثلة في الصفحة التي تلي صفحة العنوان ما يشير إلى ذلك، وهي في قوله: «تحمّل القلب هذه العاصفة بين عامي 2022 - 2023». تأخذك دلالتا (تحمّل والعاصفة) إلى مضامين منفتحة على الألم والوجع واتساع دوائرهما المتمثلة في صعوبة الواقع وتأزمه، كما تعيدنا إلى لفظة الألم في عتبة العنوان الرئيس عن المواجهة في المجموعة، وتعطي مؤشرًا أول لما يمكن أن نرصده في نصوص المجموعة من أن هنالك حزنًا عميقًا وألمًا قابعًا في النفس الإنسانية.

تُقدّم المجموعة نصوصها في ثلاث وستين صفحة قسّمها الشاعر إلى ثلاث مقطوعات شعرية إضافة إلى افتتاحية وختامية، وتتنوع النصوص في دلالاتها الشعرية ومضامينها وانفتاحها على الواقع واستلهامها منه تجربتها الكتابية والدلالية، كما تعيش النصوص حالة من الهم الإنساني والجراحات المتكررة، والأحزان العميقة، ويظهر الانكسار الداخلي للأمكنة، وتبدو الذات مرتبطة بما يفيض عليها من القلق والحزن والرحيل.

يفتتح الشاعر مجموعته بـ(ورقة أولى) باحثًا عن دروب التيه التي تتشكل منها الاتجاهات المجهولة، مستخدمًا أفعالًا مضارعة في عملية الكتابة وكأن الدلالات مقصودة هنا للتعبير عن دروب مجهولة تئن تحت وطأتها عمليتا التعبير والوصف:

كمن يبحث عن عمر للحجر

كمن يطرق الأرض بحثًا عن الحب

كمن يغرس في التربة

عطش صديقي الميت إلى اليقظة.

ليلًا

الزرقة تميل إلى الغياب

الطرق المهجورة كرماد الصحراء

الأيائل الغافية أيقظها مطر الفجر

أيقظ بومة الجبل

سحرة الليل

عيون الجندب البري.

الأمر ذاته الذي ذهب إليه الشاعر في نصه (ورقة أخيرة)، فالدروب المجهولة تفضي إلى النهايات التي يُعبّر عنها بغلق النوافذ والشيخوخة، والطلل المجهول:

الأشجار

مروق الأطلال

السماء

تحتضن الطيور

بعد أن أغرقت البحار الأرض

امرأة

تغلق النوافذ

الأبواب

شرفات القلب

تنتظر الشيخوخة

بطلل مهجور.

يظهر في النصين الحيرة في البحث عن المجهول والتمزق في دروب الحياة، ويحيل النص على وجع داخلي في رحلة الحياة ينتهي بأبواب مغلقة ونوافذ مسدودة، وهي صورة الحياة الممتدة في عين الإنسان.

اللافت للنظر في المجموعة أنّ نصوصها مسكونة بالألم والوجع والخسارات منذ أول نص معنون بـ(العائدون من الحرب) مرورًا بـ(كل شيء مطفأ) و(طريق جبلي) أو (طرق جبلية) التي تتحول فيها الصورة إلى لغة قاتمة وحزينة، انتقالًا إلى نصوص (هذه مدن مظلمة وكئيبة) و(أحبتني ورحلت) و(أعيش ذكراها) و(كل شيء ينذر بالغياب). هذه النصوص بالتحديد في الجزء الأول من المجموعة تستدعي الألم بكل مفرداته، لا تستطيع التخلي عنه وتكون مشحونة بالقيد والرحيل والدموع حتى تصير لقطة جنائزية محملة بقتامة الوصف الحاصل. تتحدث الصورة في نص (العائدون من الحرب) قائلة:

لا أعرف ماذا يحمل العائدون من الحرب

على ظهورهم الكثير من المتاع

ربما كثير من الجراح أيضًا.

أحدهم تذكر أباه الميت

عندما وصل القرية

لكنه لم يجد الدموع

التي تجعله قادرًا على النسيان.

إن ارتباط الصورة أعلاه بالحرب يضع المشهد الذي نقرؤه في ارتباط مع الألم والحزن الذي يحاول الشاعر أن يعبّر عمّا خلَّفته الحروب من ذاكرة مهزوزة، فالعائدون من الحرب:

لا يتحدثون

هكذا علّمتهم الحرب

أن يكونوا صامتين أبدًا

العائدون من الحرب

انتظرتهم الأمهات والآباء

حتى وهم يزحفون في التربة

حتى وهم رؤوس دون أجساد

أجساد دون رؤوس.

ويستحضر نص (طريق جبلي) صورة قاتمة للمكان الذي يحاول الشاعر من خلاله استدعاء صورة مؤلمة مرتبطة بالمكان ومعبّرة عن الرحيل والألم والهجر واللوعة والفراق:

الطريق الذي يصل بنا إلى القلاع الجبلية

منها تهبط النساء

حاملات التمر والعسل والجراد

يعود الأطفال السحرة

بحثا عن المطر الذي يقود إلى نهاية الكون.

يرحل حصان الفارس الميت

عن البيت الذي يختبئ به الألم والهجر

عن نوافذ المطر المبللة باللوعة والفراق.

يعود المهاجر إلى وطنه غريبًا

يشعل نارًا في ساقية الجفاف

ينتظر الرياح والمطر والغناء السحري

ينتظر بكاء الأمهات الذي افتقده في الرحيل.

تُعبّرُ نصوص المجموعة في هذا الجزء عن الألم وتحاول بناء الصور الشعرية من خلاله، أما النصوص في الجزء الثاني من المجموعة فهي لا تكاد تختلف عن الجزء الأول إلا في المراوحة بين استدعاء الألم واستدعاء الحنين والذاكرة. وعديدة هي النصوص التي تتشكل فيها الصورة من بوابة الألم مقابل الحنين والذاكرة، ولعلي أقف هنا على نص واحد عنوانه (سيناريو) الذي انبنت صورته الفنية من دلالات الحزن وتراكيب الفراق والوحدة.

ويقوم النص على متضادات القتل والضحك، والبكاء والموسيقى، والموت والوحدة. إنها دلالات مكثفة في نص قصير يصل إلى ستة عشر سطرًا شعريًا تعبّر فيها هذه الدلالات عن تقاطعات الخراب والألم والحروب وتأثيرها على النفس وما يتولد منها من رصد لدلالات فنية تصف الواقع وتنتهي به إلى الوحدة والموت والحزن، نقرأ في النص:

حين يقترب منا القتلة

كيف نكون قادرين على الضحك

كيف يكون الأطفال قادرين على البكاء

امرأة تتعرى

خلف المرأة سيارة عسكرية

موسيقى المارش العسكرية تبدأ في الزحف

مع عساكر أضناهم الجوع إلى الجنس

أخيرًا دلفنا معًا إلى حديقة في الربيع

لكنني مثلما أسقي الشجر الماء أسقيك قلبي

أنا امرأة وحيدة هجرها الزمن

لا أحد معي في الكون

غير كلب وقطة

الرجال صامتون ممتلئون بالحزن

بعضهم يمتلئ بالبلادة

لكنني خرجت أبكي إلى النهر

وأموت وحيدة.

وفي الجزء الثالث من المجموعة تحيلنا النصوص على عالم الطفولة؛ لكنها طفولة محمّلة بأحاسيس الألم أيضًا، فالطفولة مرتبطة بعالم القتل والموت والحزن، وهنا نجد نصوصًا مثل: (خوف مرير من الطفولة، وريح تحمل أحاديث طفولتنا، ونبض القلب... قلب الحب، وطفلة تشبه طفلتها الميتة) تربط بين عالم الطفولة وعالم الحزن والفقد. يصوّر نص (خوف مرير من الطفولة) مدى خوف المحتل من الطفولة التي يعمل المحتل على استهدافها كل حين، يقول:

دعوا الأطفال في الكهوف

اغلقوا الأبواب والنوافذ

اغرسوا أشجارًا في البحر

قرب النبع الجبلي

يكمن خوف مرير من الطفولة لدى نتنياهو

لأنهم قريبون من الله ومن محبته.

وفي نص (طفلة تشبه طفلتها الميتة) تتداخل صورة طفلتين في تشكيل النص الشعري ومعها عودة إلى الماضي لحظة الوصف، في محاولة إلى استدعاء الألم المرتسم على ذاكرة الأم التي فقدت طفلتها:

صراخ الطفولة القادم من أزمنة بعيدة

أمي التي تبكي كلما لمحت

طفلة تشبه طفلتها الميتة

معها يندثر الألم

مع المطر يأتي صوت الصغيرة الغائبة

الصبية التي لن تعود

ولن يعود معها مطر الحقول.

ومع كل تلك الدلالات المعبّرة عن الحزن في المجموعة، فإن الشاعر اختار طريقة الضحك في وجه القتلة تعبيرًا منه عن مواجهة الألم/ القتل بالضحك وليس بالحزن فما كان إلا أن حدّد أسلوب عتبته على هيئة سؤال: كيف نضحك أمام القتلة؟

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق