loading ad...
عمان - في عالم تتطور فيه التكنولوجيا بوتيرة غير مسبوقة، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة طموحة أو وسيلة مساعدة للإنسان، بل أصبح قوة تحويلية تعيد تشكيل مفاهيمنا حول العمل والإنتاجية والقيمة. فنحن أمام تحول هو الأعمق في ديناميكيات سوق العمل منذ الثورة الصناعية. لكن على عكس المحركات البخارية أو خطوط الإنتاج، فإن ما نتعامل معه اليوم هو خوارزميات تتعلم وتفكر وتتخذ قرارات. وفي ظل هذا المشهد المتغير بسرعة، يصبح من الضروري إعادة التفكير في أسس سوق العمل، ووضع سياسات وطنية واضحة وشجاعة تستوعب هذا التحول الكبير وتستعد له فعليا.اضافة اعلان
تشير الإحصاءات إلى واقع لا يمكن تجاهله؛ فمن المتوقع أن تهدد تقنيات الذكاء الاصطناعي ما يصل إلى 300 مليون وظيفة تقليدية حول العالم، خاصة في الأدوار الروتينية والإدارية التي لا تتطلب إبداعا أو تعقيدا. في المقابل، من المنتظر أن تخلق هذه التقنيات نحو 169 مليون وظيفة جديدة، وتتركز بشكل أساسي في المجالات المتقدمة مثل تحليل البيانات، تعلم الآلة، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وهذا يبرز حقيقة مهمة: فالتهديد الحقيقي لا يكمن في الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في عدم الاستعداد له. فالذكاء الاصطناعي لا يُلغي الوظائف بل يُعيد تعريفها، ويمنحها بعدا إستراتيجيا وإبداعيا.
واما في الأردن، يسير التعليم الأكاديمي في مسار مرتبك، ويواجه تحديات كبيرة. فوفقا لدراسة حديثة صادرة عن جمعية شركات تقنية المعلومات والاتصالات الأردنية (int@j)، بلغ عدد خريجي تكنولوجيا المعلومات لعام 2023 حوالي 7.247 خريجا، بينما تشير التقديرات الأولية إلى أن عدد طلاب الذين على مقاعد الدراسة في هذا القطاع يتجاوز اليوم 25.000 طالب، مع توقع تخرج ما بين 8.000 إلى 8.500 منهم في عام 2025. ومع ذلك، ما يزال غالبية الطلاب يتجهون نحو التخصصات التقليدية مثل علوم الحاسوب (31 %)، نظم المعلومات الحاسوبية
(19 %)، وهندسة البرمجيات (17 %)، مما يكشف عن فجوة واضحة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل الرقمي المتسارع، ويدعو إلى إعادة تصميم المناهج وتوسيع الأفق الأكاديمي لتجهيز الخريجين بمهارات المستقبل.
كما أن الذكاء الاصطناعي يفرض واقعا جديدا على المهارات المطلوبة في سوق العمل. فالتوقعات العالمية تشير إلى أن 39 % من المهارات الأساسية المطلوبة في سوق العمل ستتغير بحلول عام 2030. فلم يعد التعلم مدى الحياة رفاهية، بل ضرورة اقتصادية ووطنية. فالمهارات التي كانت مطلوبة بالأمس ستصبح غير ذات صلة غدا، والمهن التي نعرفها اليوم ستُستبدل بأخرى لم تُخلق بعد. لذا، فمن المهم توجيه الطلاب نحو أدوار مستقبلية مثل "مهندس تعلم آلي"، "محلل بيانات ضخمة"، أو "اختصاصي أخلاقيات الذكاء الاصطناعي"، كأولوية وطنية استراتيجية.
ومع تطور الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة إلى كيان مستقل، تتغير طبيعة دوره في بيئة العمل بشكل جذري. فلم يعد الأمر يقتصر على مساعدة الإنسان، بل بات بإمكان الأنظمة الذكية تنفيذ عمليات كاملة، اتخاذ قرارات، التكيف مع التغذية الراجعة، بل وتحسين أدائها الذاتي دون تدخل مباشر من الإنسان. هذا التحول سيؤدي إلى اختفاء عدد كبير من الوظائف التقليدية المعتمدة على التكرار أو اتخاذ قرارات روتينية. وفي المقابل، ستظهر فئات جديدة من الوظائف تركز على تصميم الأنظمة الذكية، مراقبة حوكمتها، وضع الأطر الأخلاقية لها، وإدارة التعاون بين الإنسان والآلة. وهذا لا يعني مجرد تغيير في طبيعة العمل، بل تحول جذري في طريقة تفكيرنا في قيمة العمل البشري.
لكن مع الفرص التي تفتحها التكنولوجيا، هناك تحديات متزايدة، أهمها اتساع فجوة المهارات. وهذه الفجوة تتعمق مع كل موجة ابتكار، مما يستدعي تدخلا فعالا من الحكومات والقطاع الخاص من خلال برامج تدريب متقدمة وبيئات تعليمية محفزة. ويجب أن تمتد جاهزيتنا لما هو أبعد من حدودنا الجغرافية. فدول مثل إستونيا تُعد نموذجا رائدا في دمج الذكاء الاصطناعي بالتعليم والحكومة والخدمات العامة. ويمكن للأردن الاستفادة من هذه النماذج من خلال عقد شراكات أكاديمية دولية، وتسريع وتيرة نقل المعرفة.
وفي ضوء كل ما سبق، فإن التحوّل القادم ليس مجرد خيار استراتيجي، بل ضرورة وطنية ملحّة. فالسؤال الحقيقي لم يعد حول قوة التكنولوجيا، بل عن كيفية توجيهها وحوكمتها لخدمة التنمية والعدالة والنمو. وتمتلك الجامعات الأردنية، بالتعاون مع الحكومة والقطاع الخاص، فرصة ذهبية لإعادة تعريف دورها، ليس فقط كمؤسسات تعليمية، بل كمختبرات لصناعة المواهب المستقبلية.
ختاما، الذكاء الاصطناعي لا يُقصي الإنسان من المعادلة، بل يدعوه للدخول في عصر جديد من التطور والإبداع. النجاح في هذا العصر يتطلب قرارات جريئة، قيادة ذات رؤية، وإيمان راسخ بأن الاستثمار في العقول هو الطريق الأكثر استدامة لتحقيق التقدم الوطني. فهل نحن مستعدون حقا لصياغة الغد؟ أم سنكتفي بمشاهدته يتشكل دون مشاركتنا؟ الجواب يبدأ اليوم.. في الجامعات والمختبرات، وفي قرارات كل صانع سياسة يرى في الذكاء الاصطناعي فرصة للتغيير لا تهديدا.
0 تعليق