مناهج التعليم.. مناكد الأدب

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

معضلةٌ حقيقيّة نجابهها فـي العقد الأخير فـي أغلب مناهج التعليم فـي الوطن العربيّ، وهي الاجتهاد فـي تغريب درس الأدب، والعمل على تخيُّر نصوصٍ تُنكّد على الطلبة، وتجعلهم يُقسمون الأيمان الغلاظ ألاّ ينظروا فـي الكاتب والكتاب بعد انتهاء الحاجة إليه، وكأنّ القائمين على وضع نصوص الأدب لهم مزاجُ التنفـير لا التقريب، ولهم غايات لا يعلمها فـي الغالب الأعمّ أحد، قد يكون الأمر راجعًا إلى فساد الذوق، وقد يكون راجعًا إلى المبالغة فـي تقصّي قيم أخلاقيّة أو دينيّة والحرص على عرض نصوصٍ «نظيفةٍ» لا تشوبها دواخل أو عوارض أو عواصف.

حاولتُ وأنا أخطُّ هذا المقال أن أعصف ذهني وأن أتذكّر أوّل رواية قرأتُها، وكنت أريد أن أكتب عن روايتي الأولى، وكنت أريد أن أكتب عن سيرتي مع توفـيق الحكيم، فانقدحت الذكرى، وتذكّرتُ عنوان الرواية الأولى، فـي المرحلة الابتدائيّة، كانت لدينَا حصّة مطالعة كلّ أسبوع، هي عبارة عن تسلّم كتاب يبقى معنا لأسبوعين، ننهيه مع تلخيص، أو عرضٍ شفويّ أمام المدرِّسة التي هي نفسها حكاية طويلة أمدَّ اللّه فـي أنفاسها.

الروايةُ الأولى والكتاب الأوّل الذي منحتني إيّاه معلِّمة الابتدائي هو روايةُ «بودودة مات» لعَلَم مؤسِّس فـي تونس فـي كتابة الرواية، وهو - إضافةً إلى ميْله القصصيّ الإبداعي - باحث وأستاذ جامعيّ من أوائل المتخصّصين فـي الدراسات المعجميّة. راقتني الرواية، وشخصيّتها الغريبة، وبُعدها الوطني أيّام التحرّر من الاستعمار الفرنسيّ، فبدأتُ أتلقَّطُ بعض القصص المترجم، وبقايا مجلاّت قديمة؛ ذلك أنّي لم أكن من أُسرة عالمة ولا مثقَّفة، ولا يُوجَدُ فـي بيتنا كتابٌ واحد غير كتاب القرآن الكريم الذي هو ملكٌ لأمّي تتهجّاه كلّ ليلة.

تعلّمت القراءة من هذا الحدث الأوَّل الذي لم يُمْحَ من ذاكرتي، ومن معلِّمين يقفون على كلّ جزء من الكتاب المقروء، يسألون فـي تفاصيله، ويُوضّحون لعقولنا الصَّغيرة ما تعمَّى عنها. المرحلة الثانيَّة التي شكلت فارقًا نوعيًّا هي تعرّفـي على صديق شاعرٍ متحقّق فـي بداية الثمانينيّات، وكان جارًا لي، يمتلك مكتبة وسيعةً بمقياسي ساعتها، وهي مكتبة صغيرة جدّا بمقاييسنا اليوم، فـيها كتابٌ لتوفـيق الحكيم، ثمنه بخسٌ، فما كان منّي إلاّ أن جمّعت مصرفـي اليوميّ البسيط، وكان جمعه يشتري لي كتابًا من أعمال توفـيق الحكيم تصدر عن مكتبة شعبيّة، فكنت كلّ نهاية أسبوع أشتري مسرحيّة أو روايةً لتوفـيق الحكيم، ونقضّي اللّيالي الطوال صحبة صديقي الشاعر الذي كان يكبرني بسنتين ونحن فـي الإعداديّة، نناقش الرواية أو المسرحيّة، ومنه قرأتُ كلّ ما كتب الحكيم وأدمنت كتاباته.

الحدث الثالث وجدناه فـي الإعداديّة فـي كتابي النحو والصّرف، وهما كتابان تعليميّان أنجزهما نحويٌّ مؤسِّس للجامعة التونسيّة وهو عبد القادر المهيري، ولم يكن قارئًا، ولا عارفًا بالنظريَّات التربويّة السّائدة اليوم، والتي يبدو أنّها أفسدت الذائقة التعليميّة، وصرفت العقول عن الجوهرِ إلى العَرَض.

هذان الكتابان درسناهما فـي مستويات مختلفة فـي السنوات الإعدادية الثلاث، واحتويا على خُطّة تدفعكَ قَسْرًا إلى العودة إلى أمّهات كتب التراث، وهو الحافز التعليمي الثاني فـي حياتي الذي حملني إلى كتب أثّرت بعمق فـي حياتي العلمية والعلميّة، مثل كتب الجاحظ، وكتاب الأغاني، ونشوار المحاضرة، وعدد لا يُحْصَى من الكُتب التي كان الكتاب المدرسيّ سببًا فـي رجوعي إليها وبقائي معها حتى اليوم ذلك أنّ الدرس فـي كتابي النحو والصرف يقوم على نصّ منتقى بدقّة وذوق وإحساسٍ وهدفٍ، فهو إضافةً إلى احتوائه على الظاهرة النحويّة أو الصرفـيّة مدار الدرس، نصّ مرغِّبٌ، يستميل الطالب وإن لم يكن من هواة الأدب ولا القراءة، يحتوي على طرفة أو مثل أو حكمة أو غزل أو كرم أو بطولة، بأسلوبٍ لطيف خفـيف، وفـي إيجاز واختصارٍ، ومن بعده يأتي شرحه وتتبّع الظاهرة المراد تدريسها. طُرَف الجاحظ أدركناها من هذا الكتاب، الحكاية المثلية فـي «كليلة ودمنة» عرفناها من هذه الدروس، ومنها أيضا صار كتاب الأغاني مألوفًا فـي أسماعنا، وكانت هنالك مكتبة عموميّة قريبة من المدرسة الإعداديّة، تحتوي المصادر العربيّة القديمة كلّها، وقيِّمها شيخ يحرص على الكتاب أكثر من حرصه على أبنائه، يُراقِبُ ويُعاين، ويرفض تسليمك بعض الكتب بسبب قيمتها، ويا ويلك وسواد ليلك إن وضعت ذراعك على الكتاب، أو قلّبت الصفحات بصوتٍ أو فوضى أو عنف، فأنت آنذاك، سامع أقذع النعوت، ومطرود بلا عودة، ويا حسناك وهناك إن بقيت سنة أو ما يزيد تواظب على المكتبة بالتزام، وبمراعاة لقانون الشيخ القيّم، وقتها يُمكن أن يُعيرك كتابًا وأن يسمح لك بالتجوال تحت ناظره بين رفوف المكتبة، وتلمُّس الكتب التي كانت محفوظة كلّها فـي خزائن، هو الوحيد مالك مفاتيحها.

فـي الآن ذاته كانت نصوص كتب القراءة فـي مادّة العربيّة، منتقاة بحرصٍ وبوعيِ من يدفعك إلى العودة إلى أصولها، لا نكدَ فـي النصوص، ولا ثِقَل، أذكر أنَّا كنّا ندرس شعر المتنبي فـي السنة الأولى ثانوي، وكان الكتاب المدرسي يحوي مقاطع من أروع ما قاله المتنبّي، فكنّا نحفظ هذه الأبيات دون أن يطلب منّا أحد ذلك، وسنتها تدبَّرت أموري واشتريتُ من حرّ مالي شرح البرقوقي لديوان المتنبّي حتّى أتمكّن من الاطّلاع على بقيّة القصائد. ما زلتُ أعتقد أنّ المدرسة بمناهجها أوَّلاً وبمدرِّسيها ثانيًا هم الإطار الأنسب لتفعيل القراءة ولحثّ الأجيال الصّاعدة على بناء عقول سليمة وبناء جيل مثقّف حقًّا وإن لم يتخصَّص فـي الأدب.

لقد كانت مناهج التعليم سبيلا سليما للإبهاج بالأدب. الأدب سعادة وإسعادٌ وإن احتوى مأساة، هو فعلٌ يدفعك من داخلك إلى مواصلته، إلى عدم بتر خطوه، وليس هنالك كائن لا يجد فـي الأدب مبتغاه، ولذلك فالثراء ضروريّ، وحتميّ، هنالك من يطلب جدًّا وحزْمًا، وهنالك من يطلب فكاهةً وظرفًا، وهنالك من يطلب حكاية ألم أو أمل أو هزيمة أو انتصار، وهنالك من يروقه شعر غزل، أو شعر نخوة وبطولة، فالنّاس أذواقٌ والأدب هو تعبير عن حيوات عدد. المشكل الأساسيّ كيف يمكن أن نعرض هذه الحيوات على أجيال تعلق أفئدتها بالكتاب، بالقراءة، بالأدب؟ لم تعد مناهج التعليم -مع الأسف- مباهج الأدب، بل صارت مناكده، وطلبتنا ينفرون -كرهًا ومقتًا- من حصص اللّغة العربيّة، بسبب ثقل ظلّها ومن يؤدّيها!.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق