كنتُ فـي الأيام الماضية أتفكّر كعادتي فـيما صنعته الحرب بنا، ملقية كل ما أمر به من تجارب مؤلمة عليها؛ فهي تلقي بظلالها على كل شيء. منذ بداية العدوان على غزة وكثيرون ممن حولي يعتبرون ما أعيشه حساسية مفرطة فـي أحسن الأحوال أما فـي أسوئها فـيظنون أنني مجنونة وحالمة فهذه طبيعة الحياة؛ عدوان مستمر. ورغم ازدرائي للموقفـين إذ يعبّر الأول عن جهل، يجعل ما يحدث فـي فلسطين بعيدًا عني إذا ما نظرنا للأسباب الموضوعية والمادية، بالإضافة لكون التأثر بما يحدث هناك رغم بشاعته غير المسبوقة يتطلب حساسية من نوع خاص. أما النوع الثاني فأجده متواطئًا مسحوقًا بسردية «حتمية التاريخ» و«حتمية الطبيعة»، ولا يمكن أن يكون حرًا حتى أمام ذاته.
كنتُ بصحبة أختي الصغيرة وصديقاتها بينما يعبرن عن أوجاع ومسرات الحياة اليومية. ولم يدهشني قص إحداهن لما تسميه «عنوان حياتها» مدللة عليه بموقع زحل وقت ولادتها، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي أسمعها فـيها تتحدث عن حركة الكواكب وحياتها الشخصية، لكنها هذه المرة ذهبت بعيدًا للحديث عن مأساة جيل مواليد التسعينيات الذين - بحسب رؤيتها - يشتركون فـي مأساة موقع زحل فـي ذلك العِقد المشؤوم. إلا أنني هذه المرة آثرت الصمت؛ بدا لي أن أي شيء سيقال، ربما سينزع منها قدرتها على تحمل ما يحدث، وهي تسلك هذا الطريق لمَنطَقَة ما يجري بهذه الطريقة أمام سعار كل ما يحدث من الحرب إلى التفاوت الطبقي.
لقد شهد جيلنا بالفعل مآسي عديدة، وليس بالضرورة أن يعني ذلك أن الأجيال التي سبقتنا لم يحدث معها ما هو أشد مما حدث معنا. لا أدري بصدق لماذا يحدث اجترار هذا الاستقطاب عند التعبير عن مأساة جيل ما! عموما هل لكم أن تتخيلوا أنني أنا نفسي شهدت ثورة «البيجر» وامتياز أن يكون للإنسان جهاز بيجر. كان ذلك علامة على الرفاهية! ثم بدأت ثورة الهواتف المحمولة، أتذكر أن أحدًا من عائلتي اشترى بطاقة الهاتف ( SIM card ) بنحو ثلاثين ريالًا عمانيًا. وعندما لم نكن قد تجاوزنا السابعة بدأت ثورة الإنترنت، وقد كنا فـي جانب العائلات الفقيرة أو محدودة الدخل فـي عزلة عن التمتع بهذا الاختراع الذي يستطيع انتشالنا من واقعنا بل يفتح لنا أفقًا لتشكيل علاقة جديدة بواقعنا نفسه، لكنه مع ذلك كان هناك تمامًا مثل تبعات سقوط جدار برلين ١٩٩١.
وبينما نكبر محاولين تشكيل ذواتنا وسط هذه التغييرات الكبيرة التي يصح عليها مفهوم «المنعطف» السياسي، كان الحادي عشر من سبتمبر مختبرا لهويتنا التي بات الجميع يصمها بالإرهاب. وبينما نحاول استيعاب ذلك كانت بغداد تسقط أمام أعيننا، لا نفهم بالضبط لماذا يصدر عن قناة الجزيرة ذلك الحريق البرتقالي فـي الشاشة، بينما يتداعى مذيع نشرة الأخبار المباشرة.
تعلمنا فـي هذه المرحلة أن وسيلتنا الوحيدة للترقي الاجتماعي هي الحصول على التعليم؛ إذ أعليت قيمة «العصامية» وصارت الفضاء الذي نقاتل فـيه من أجلنا وعائلاتنا، علينا أن نجتهد فـي المدرسة لندخل الجامعة ونعمل من بعدها فـي وظيفة مستقرة تدخلنا فردوس الطبقة المتوسطة الذي سنستريح فـيه، كما حدث مع من سبقونا فـي الثمانينيات والسبعينيات، لنتفاجأ فـي ٢٠٠٨ بانهيار الاقتصاد العالمي، واستمرار توحش المال سنة بعد أخرى. وعندما كنا قد تخرجنا من الجامعة قبل ثورة التواصل الاجتماعي التي كانت هائلة هي الأخرى فـي منعطف آخر جديد فوجئنا بأزمة البطالة العالمية؛ فعندما تخرجت من الجامعة ٢٠١٥ كان الجميع يراهن على أنني لن أحصل على وظيفة.
مازال الكثيرون ممن تخرجوا فـي هذه الفترة عاطلين عن العمل، متحلقة عيونهم فـي البلاط التي يقفون عليه، ذلك أن أفقًا على مد نظرهم معدوما والتفكير فـيه يعني الجنون. لا لم يفتني ذلك الحدث الكبير (الربيع العربي) الذي هيجنا كما لو أصابنا مسٌّ كهربائي، آملين أن نسقط الأنظمة الاستبدادية وأن يحقق للشعوب العربية رخاء ينتشل الناس من الفقر، ويسمح لهم بالتعبير علانية عن رفض مصادرة ثروات البلاد أو العدمية السياسية التي ما تفتأ تعيد نفس التراتبية الاجتماعية أو التواطؤ مع الاحتلال، أو الاستعمار بالوكالة. ذلك الحلم الذي سُيعدم مع مرور الوقت، حتى أن كثيرين منا آمنوا بأن ما حدث كان خطأ كبيرًا لا يُغتفر، وجنونا آخر من سلسلة «الجنون» الذي وصمنا به.
عودة لـ«عنوان حياتنا»؛ أظن أن الخسارات التي مشت على جثثنا خصوصا وأن كثيرين منا ودعوا العشرينيات بينما دخل العالم فـي وباء عالمي فاقم من فاشية الاقتصاد العالمي، وبينما نحاول فهم أن ثلاث سنوات تقريبا اختطفت من أعمارنا فـي الوباء حتى دخلنا فـي سلسة حروب، آخرها هذه التي ننظر فـيها إلى من يكبروننا ويتولون قيادة العالم، منتظرين أن يفعلوا شيئًا لإيقافها، بينما لا نصدق أن هنالك أسوأ من ذلك الذي اختبرناه فـي العقدين الماضيين!
0 تعليق