خمسة أشياء كانت الولايات المتحدة تعرفها عن النكبة أثناء وقوعها

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

جوش روبنر* - (معهد الشرق الأوسط) 13/5/2025


خلال الأيام الأخيرة من فترة إدارة ترامب الأولى، وجّه 22 نائبًا جمهوريًا في الكونغرس، بقيادة دوغ لامبورن من كولورادو، رسالة إلى الرئيس يحثونه فيها على شطب قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقوقهم من سياسة الولايات المتحدة. وجاء في رسالتهم: "إن مسألة ما يُسمى بحق العودة للفلسطينيين البالغ عددهم 5.3 مليون لاجئ إلى إسرائيل كجزء من أي ’اتفاق سلام‘ هي مطلب غير واقعي، ولا نعتقد أنه يعكس بدقة عدد اللاجئين الفلسطينيين الحقيقيين".(1)اضافة اعلان
لم يقتصر هدف هؤلاء الأعضاء من الكونغرس على تحجيم قضية اللاجئين الفلسطينيين وإنكار حقوقهم والمزيد من ترجيح كفة السياسة الأميركية لصالح إسرائيل فحسب؛ كان موقفهم متسقًا أيضًا مع استراتيجية إسرائيلية متعمدة لتعزيز ما أسماه المؤرخ نور مصالحة بـ"محو ذاكرة النكبة" -عملية التهجير واسعة النطاق التي قامت بها إسرائيل لثلثي السكان العرب في فلسطين خلال تأسيسها في العام 1948، وهي عملية يرى العديد من الفلسطينيين -عن حق- أنها ما تزال مستمرة حتى اليوم.
وكتب مصالحة: "الأساليب الصهيونية لم تُجرِّد الفلسطينيين من أرضهم فقط، وإنما حاولت أيضًا تجريد الفلسطينيين من صوتهم ومعرفتهم بتاريخهم".(2)
تُقدّر أعداد الفلسطينيين الذين طُردوا من منازلهم أو فرّوا أثناء النكبة بنحو 750.000 شخص. ويمثّل هذا الرقم حوالي 75 في المائة من السكان الأصليين لفلسطين الذين كانوا يقيمون ضمن حدود ما أصبح لاحقًا "خطوط الهدنة" الإسرائيلية في العام 1949. وقد منعت إسرائيل فعليًا جميع الفلسطينيين من العودة إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم بعد ذلك، كما قامت بهدم ما بين 400 و500 مدينة وبلدة وقرية فلسطينية خلال النكبة، في محاولة لمحو الوجود الفلسطيني من الأرض.
عن طريق عدم وضع أحداث النكبة في المركز باعتبارها القضية التأسيسية للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، يتم تضليل صانعي السياسات لدفعهم إلى الاعتقاد بأن الحل العادل والدائم للقضية الفلسطينية يتطلب فقط إنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وقطاع غزة. ومن شأن مثل هذا الحل أن ينكر حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة واستعادة الممتلكات، وسيكون غير عادل.
كما يعمل إنكار النكبة أيضًا كآلية لتعزيز إنكار إسرائيل لحقوق اللاجئين الفلسطينيين، وتبييض صفحة تجريد الفلسطينيين من أراضيهم، والتعتيم على الأصول الإقصائية لإسرائيل، وتغليف نشأتها بسردية فاضلة ولا تاريخية. ولمواجهة هذه المحاولة الخبيثة التي يبذلها السياسيون الأميركيون وغيرهم لإبادة ذاكرة النكبة، من المفيد مراجعة أرشيفات الدبلوماسيين الأميركيين الذين كانوا يعملون في فلسطين والدول العربية المحيطة، والذين شهدوا أحداث النكبة وأرسلوا تقاريرهم إلى وزارة الخارجية الأميركية عن حجم وخطورة تهجير إسرائيل لسكان فلسطين الأصليين وتجريدهم من ممتلكاتهم.
حاول أول رئيس لإسرائيل، حاييم وايزمان، إقناع جيمس ماكدونالد، أول سفير أميركي لدى إسرائيل، بأن أزمة اللاجئين الفلسطينيين تمثل "تبسيطًا معجزًا لمهام إسرائيل".(3)
لكنّ الأرشيفات توضّح تمامًا أن الدبلوماسيين الأميركيين كانوا يدركون أن نزوح الفلسطينيين لم يكن ظاهرة طبيعية كما ادعى وايزمان، وإنما كان نتيجة لسياسة مدروسة ومتعمدة للتوسع، نفذتها أولًا الميليشيات الصهيونية، ثم الجيش الإسرائيلي لاحقًا، مما أدى إلى تجريد الفلسطينيين من أراضيهم عن طريق الإرهاب وارتكاب الفظائع. وتم تكريس هذا الاقتلاع من خلال نهب وتدمير ممتلكات الفلسطينيين بشكل منهجي، بحسب ما أكده هؤلاء الدبلوماسيون، مما أدى إلى حدوث أزمة إنسانية شديدة الخطورة.
في ما يلي خمسة أمور كان الدبلوماسيون الأميركيون يعرفونها ويفهمونها عن النكبة أثناء حدوثها، استنادًا إلى ملفات القنصلية الأميركية في القدس:
1. إسرائيل لن تُلزم نفسها بحدود الدولة اليهودية كما تصوّرها قرار التقسيم
لا يوجد دليل في الأرشيفات يشير إلى أن الدبلوماسيين الأميركيين كانوا على علم بتبني خطة "دالت" -وهي خطة قامت على غزو وإفراغ مساحات واسعة من البلاد، وكانت تنص على "تدمير القرى" وقيام القادة الصهاينة بـ"طرد السكان خارج حدود الدولة"(4)- في آذار (مارس) 1948.
مع ذلك، وعلى الرغم من افتقارهم إلى معلومات استخباراتية دقيقة، خشي الدبلوماسيون الأميركيون من أن القيادة الصهيونية لن تكتفي بالحدود المتصورة للدولة اليهودية كما حددها قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة.
على سبيل المثال، في برقيتين بعيدتي النظر أُرسلتا إلى وزارة الخارجية الأميركية في أيار (مايو) 1948، حذّر القنصل العام الأميركي، توماس واسون، من احتمال حدوث توسع إقليمي على يد "الهاجاناه"، الميليشيا الصهيونية الرئيسية قبل قيام الدولة، في أعقاب انتهاء الانتداب البريطاني.
وقال واسون: "نعتقد أن عمليات الهاجاناه ستظل هجومية دفاعية حتى 15 أيار (مايو)، وبعدها ستبدأ هجوماً شاملاً لتأمين حدود للدولة اليهودية الجديدة وتحسين خطوط الاتصال". كما نقل الرأي السائد حينها بأن "اليهود سيتمكنون من اجتياح كل من يعترض طريقهم ما لم تأتِ الجيوش العربية النظامية لإنقاذهم".(5)
وبعد عشرة أيام، في 13 أيار (مايو)، حذّر واسون مرة أخرى، وقال: "تنتشر التكهنات حول ما إذا كانت القوة الجديدة التي اكتسبها اليهود قد تدفعهم إلى محاولة الاستيلاء على مزيد من الأراضي"، مشيرًا إلى تصريح أحد الناطقين باسم "الوكالة اليهودية" بأن "بن غوريون كان يقول دائمًا إن الهدف الرئيسي لليهود هو الحصول على كل فلسطين".(6)
2. نزوح الفلسطينيين كان نتيجة للفظائع الصهيونية والإسرائيلية
تحتوي الأرشيفات على العديد من الروايات القاتمة والواقعية عن المجازر التي ارتكبتها الميليشيات الصهيونية والجيش الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، سواء قبل أو بعد إعلان قيام دولة إسرائيل، كوسيلة لتحقيق هذا التوسع.
في 5 كانون الثاني (يناير) 1948، فجّرت قوات الهاجاناه "فندق سميراميس" في القدس، ما أسفر عن مقتل أكثر من 20 مدنيًا فلسطينيًا. ووصف القنصل العام الأميركي، روبرت ماكاتي، التفجير بأنه "حدث بارز حتى في ظل حالة الرعب الدائمة الحالية في فلسطين". وكانت الاستجابة الأولية لهذه الفظاعة هي وصفها بأنها "عديمة الدافع تمامًا إلى حد يمكن معه تصنيفها في خانة العدمية".(7)
وبينما أثار تفجير فندق سميراميس قلقًا بالغًا لدى الفلسطينيين في القدس بشأن سلامتهم، فإن المجزرة الشهيرة التي ارتكبتها ميليشيات "الإرغون" وعصابة "شتيرن" بعد ثلاثة أشهر في دير ياسين أدّت إلى حالة من الذعر واسع النطاق. وأشار واسون إلى أن "نصف عدد الضحايا المبلغ عنهم، حسب اعترافات الإرغون وعصابة شتيرن نفسيهما لمراسلين أميركيين، كانوا من النساء والأطفال".
وفي زيارة قام بها ضباط القنصلية إلى حسين الخالدي، أمين عام "اللجنة التنفيذية العربية العليا"، بعد يومين، "وجدوه ما يزال يرتجف غضبًا وانفعالًا، واصفًا الهجوم بأنه ’أسوأ أساليب النازيين‘". واعتقد واسون أن "هجمات أخرى من هذا النوع يمكن توقّعها".(8)
على الرغم من أن شدّة القتال منعت الدبلوماسيين الأميركيين من الابتعاد كثيرًا عن مواقعهم وتقديم تقارير ميدانية مباشرة عن المجازر المستقبلية التي توقّعها واسون، فإن تقارير غير مباشرة عن فظائع أخرى بدأت تتسرّب إليهم.
على سبيل المثال، في تشرين الثاني (نوفمبر)، أبلغت القنصلية العامة الأميركية وزارة الخارجية عن فظائع كانت قد ارتكبتها القوات الإسرائيلية في الشهر السابق خلال احتلالها أراضي في صحراء النقب والجليل كانت مخصصة للدولة العربية بموجب خطة التقسيم.
وفي قرية الدوايمة قرب الخليل، في ما وصفه المؤرخ إيلان بابي بأنه "ربما الأسوأ في سجل فظائع النكبة"،(9) كتب الدبلوماسي الأميركي ويليام بيردت أن "العرب يدّعون أن ما بين 500 و1.000 رجل وامرأة وطفل تم وضعهم في صف وقُتلوا بالرشاشات بعد احتلال القرية" في "مجزرة" أكّدها مراقبون من الأمم المتحدة، على الرغم من أنهم لم يتمكّنوا من تحديد عدد الضحايا بدقة.
كما أفاد بيردت بأنه بعد استسلام الفلسطينيين في ثلاث قرى في الجليل، "أمر اليهود سكان القرى بتسليم جميع الأسلحة خلال 25 دقيقة. وعندما لم يتمكنوا من الالتزام بالمهلة، تم اختيار 5 رجال من قرية واحدة و2 من كل من القريتين الأخريين بشكل عشوائي وأُعدموا". وخلص بيردت إلى القول، بنبرة فاترة، إن "مثل هذا السلوك لا يمكن إلا أن يعوق التسوية النهائية في فلسطين ويترك مرارة عميقة".(10)
3. النهب المنهجي وتدمير الممتلكات كان يهدف إلى منع عودة اللاجئين الفلسطينيين
في حين أن الفظائع الإسرائيلية دفعت الفلسطينيين إلى مغادرة منازلهم، فقد وثّق الدبلوماسيون الأميركيون أيضًا عمليات النهب المنهجي وتدمير الممتلكات الفلسطينية التي ارتكبتها الميليشيات الصهيونية والجيش الإسرائيلي، وفهموا أن هذه الأفعال كانت تهدف إلى منع اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى منازلهم.
وأولى القنصل العام الأميركي في القدس اهتمامًا خاصًا بعمليات النهب المنهجي التي طالت حي القطمون والحي الألماني، وهما منطقتان سكنيتان عربيتان في المدينة. وفي 26 أيار (مايو)، زار دبلوماسي أميركي هاتين المنطقتين، ووجد أن "القتال العنيف قد تسبب في دمار مروّع في القطمون، حيث دُمّرت منازل في بعض الأحياء بالكامل بفعل التفجيرات. وتم اقتحام جميع المنازل والمتاجر، وما تزال مجموعات منظّمة تقوم بإخراج الأثاث، والممتلكات المنزلية، والإمدادات من المباني العربية، وتضخ مياه الخزانات إلى شاحنات نقل المياه. وتشير الأدلة إلى وجود عملية نهب منهجية واضحة للحي".(11)
وقد امتد النهب الإسرائيلي للممتلكات الفلسطينية في القدس ليشمل منازل الفلسطينيين الأميركيين، مثل عيسى صبّا الذي كان يقيم في حي البقعة الفوقا، مما دفع القنصلية الأميركية إلى فتح تحقيق. وفي 5 حزيران (يونيو)، اكتشف دبلوماسي أميركي أن منزل صبّا "تعرض لعملية نهب شاملة، حيث جرى اقتحام الأبواب الداخلية وتم تخريب المحتويات؛ وسُرقت ممتلكات ثمينة من بينها سجاد؛ وشمل التخريب المتعمّد تمزيق الصور وتكسير غسالة وثلاجة". وأضافت القنصلية أنها "ستواصل بالطبع متابعة القضية بقوة، لكنها تشك في إمكانية استعادة الأغراض المسروقة أو في أن ’الوكالة اليهودية‘ ستنظر في أي مطالبات بالتعويض".(12)
فهم الدبلوماسيون الأميركيون أن هذا النهب لم يكن بدافع الطمع فحسب، بل كان أيضًا جزءًا من خطة متعمّدة لخلق واقع يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على اللاجئين الفلسطينيين العودة إلى منازلهم بعد انتهاء القتال.
في 27 تموز (يوليو)، كتب القنصل العام جون ماكدونالد أنه في المناطق من القدس التي احتلتها القوات الإسرائيلية "لا يوجد أي احترام أو حماية للمصالح والممتلكات العربية. فقد تم نهب كل منزل ومتجر عربي بشكل تام، بل أُزيلت إطارات النوافذ والأبواب والسباكة والتجهيزات الكهربائية".
ولم يكن الفلسطينيون القلائل الذين تمكنوا من البقاء في منازلهم أفضل حالًا، بحسب ماكدونالد، الذي كتب: "العرب القلائل المتبقّون في هذه المنطقة يتعرضون لتفتيش دائم من قبل السلطات العسكرية، التي تصادر منهم الأثاث والملابس وأي نقود بحوزتهم. وإذا كانت السلطات المسؤولة تعترض على هذه التصرفات، كما تدّعي، فإنها على ما يبدو عاجزة عن السيطرة على الوضع".
وعلى هذه الخلفية، استنتج ماكدونالد أن "احتمالية عودة العرب إلى منازلهم في إسرائيل أو في فلسطين التي تحتلها القوات اليهودية ضئيلة للغاية، إن لم تكن معدومة".(13)
4. الفلسطينيون تحت السيطرة الإسرائيلية تعرضوا لمعاملة قاسية وتمييزية
جاءت أوصاف ماكدونالد للمعاملة القاسية التي تعرّض لها الفلسطينيون في القدس تحت الحكم الإسرائيلي مدعومة بشواغل مماثلة أعرب عنها القنصل الأميركي في حيفا. ففي تقرير مؤرخ في 14 تموز (يوليو)، أفاد الدبلوماسي الأميركي أوبري ليبنكوت بأنه في مدينة عكا: "من بين مئات الفلسطينيين القلائل الذين بقوا، وجميعهم من النساء والأطفال والعجائز، يحصلون على حصص غذائية يومية من حيفا تكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة، ليس أكثر. وأفادت راهبات دير الراهبات الفرنسي بأن نظامهن الغذائي يفتقر تمامًا إلى الخضار الطازجة والفواكه ومنتجات الألبان".
أما الذكور الفلسطينيون في سن الخدمة العسكرية، فقد تم أخذهم جميعًا كأسرى حرب، وهم "يُجبرون على العمل أربع عشرة ساعة في اليوم لبناء التحصينات والمواقع الحربية على الساحل".
كما أثار ليبنكوت أيضًا مخاوف بشأن الإجراءات التمييزية في مجال الصحة العامة في المدينة. وقد حمّل الأطباء هناك اليهود مسؤولية تفشي وباء التيفوئيد "جراء فشلهم في حماية مصادر المياه الخاصة بالعرب. وأشاروا إلى أن حالات جديدة من التيفوئيد تظهر يوميًا، وذكروا أن اليهود يمتلكون مصادر مياه مُعقّمة خاصة بهم، في حين لم يتم توفير أي تسهيلات لحماية المياه المخصصة للعرب".(14)
بالإضافة إلى حرمان الفلسطينيين من الوصول إلى الغذاء والماء الكافيين، واصلت إسرائيل تهجير الفلسطينيين قسرًا تحت حكمها. في مدينة حيفا، نقل ليبنكوت عن القنصل الإسباني في 3 تموز (يوليو) أن القائد العسكري "أمر جميع العرب في حيفا بإخلاء منازلهم"، وتم فصل الفلسطينيين المسيحيين عن المسلمين، وتوزيعهم في أحياء منفصلة داخل المدينة.
لجأ العديد من الفلسطينيين إلى دير "ستيلا ماريس" في حيفا. لكن القائد العسكري الإسرائيلي أمرهم "بإخلائه خلال ساعة واحدة"، وهدد بـ"استخدام القوة المسلحة" إذا لم يتم تنفيذ أوامره. وقد احتجّ الفلسطينيون من دون جدوى على أن نقلهم القسري إلى أحياء وادي النسناس ووادي الصليب سيحوّل تلك المناطق إلى "معسكرات اعتقال". وأشار ليبنكوت إلى الطابع التمييزي الصريح لأوامر الطرد في حيفا: "الأمر اليهودي ينطبق فقط على العرب الفلسطينيين".(15)
5. واجه اللاجئون الفلسطينيون خسائر كارثية وسط أوضاع مزرية
بقدر ما كانت الظروف قاسية على الفلسطينيين الذين بقوا تحت الحكم الإسرائيلي، تعرض أولئك الذين طُردوا أو أُجبروا على الفرار من منازلهم إلى ما وراء خطوط السيطرة الإسرائيلية لأوضاع أكثر قسوة، وغالبًا ما اضطُروا للنوم في العراء من دون طعام أو ماء أو مرافق صحية أو رعاية صحية، كما توثق العديد من التقارير العاجلة المحفوظة في الأرشيفات.
في 17 تشرين الأول (أكتوبر)، أرسل السفير الأميركي الجديد لدى إسرائيل برقية إلى وزارة الخارجية دقت ناقوس الخطر. وحذّر السفير ماكدونالد من أن "مأساة اللاجئين العرب تقترب بسرعة من أبعاد كارثية ويجب التعامل معها على أنها كارثة"، مستندًا في تقييمه إلى "خمسة عشر عامًا من الخبرة الشخصية في قضايا اللاجئين".
وأضاف ماكدونالد: "من المتوقع أن يؤدي اقتراب فصل الشتاء مع الأمطار الباردة الغزيرة إلى مقتل أكثر من مائة ألف من الشيوخ والنساء والأطفال الذين لا مأوى لهم ولديهم القليل -أو لا طعام على الإطلاق. إن الوضع يتطلب برنامجًا شاملًا وإجراءً فوريًا شبيهًا بذلك الذي تقتضيه الكوارث الكبرى كفيضان هائل أو زلزال. لا شيء أقل من ذلك سيمنع وقوع خسائر مرعبة في الأرواح". واختتم ماكدونالد بالقول إن "كل اعتبارات الرحمة والعدالة والحكمة" تفرض إعادة النظر في الجهود الدولية لتجنب وقوع خسائر جماعية في الأرواح.(16)
أدى هذا التحذير العاجل الذي أطلقه ماكدونالد إلى قيام نائب وزير الخارجية، روبرت لوفيت، بطلب تقييمات من بعثات دبلوماسية أميركية أخرى في المنطقة، والتي أجمعت كلها على خطورة أزمة اللاجئين الفلسطينيين. وأضاف بورديت من القدس: "نظرًا لضآلة الإنجازات حتى الآن، ازداد عِظم الجهد المطلوب"، واعتبر أن "خطورة مشكلة اللاجئين لا يمكن أن يكون مبالغًا فيها، ويتطلب الأمر جهدًا فوريًا وجبارًا".(17)
ومن السفارة الأميركية في دمشق، حيث شهد تدفق اللاجئين الفلسطينيين إلى سورية، قدّم الوزير الأميركي، جيمس كيلي، تعليقًا لاذعًا من بين تعليقات عدة له على الآثار المدمرة التي خلفها قيام إسرائيل على الشعب الفلسطيني. وكتب أن البعثة "تشارك بحرارة تقدير ماكدونالد لحجم مأساة اللاجئين العرب وعدم كفاية الموارد الحالية والمتوقعة للإغاثة وإعادة التوطين... والتي إن لم يتم تداركها بسرعة ستؤدي لا محالة إلى خسائر صادمة بين اللاجئين".
ولكن، على عكس ماكدونالد الذي شبّه أزمة اللاجئين بكارثة طبيعية، أصرّ كيلي على ضرورة فهم الأزمة باعتبارها نتاجًا مباشرًا للاضطراب السياسي الذي أحدثه قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين ضد إرادة غالبية سكانها الأصليين. وكتب: "سيكون من الخطأ السياسي الفادح أن تحاول الأمم المتحدة الآن فصل نفسها عن مشكلة لاجئي فلسطين؛ إنها جزء لا يتجزأ من تعقيدات المسألة الفلسطينية ولا بد أن تبقى كذلك حتى يتم حلّها سلميًا".
واختتم كيلي بقول "إنه على جميع المعنيين مواصلة السعي نحو تسوية عادلة للمشكلة الفلسطينية، وبذلك يمكن القضاء على سبب هذه الكارثة التي يجب، خلافًا للزلازل، تحميل البشر وليس الله المسؤولية عنها".(18)
أدى القلق الأميركي بشأن الأبعاد الإنسانية لأزمة اللاجئين الفلسطينيين إلى قيام إدارة ترومان بدعم إنشاء برنامج طوارئ قصير الأمد في تشرين الثاني (نوفمبر) 1948 تحت اسم "إغاثة الأمم المتحدة للاجئي فلسطين".(19) وقد شكّلت هذه الوكالة النواة لما أصبح لاحقًا "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى" (الأونروا)، التي ما تزال تقدم الخدمات الاجتماعية للاجئين الفلسطينيين حتى اليوم.
في ما قد يكون خبرًا صادمًا للنائب لامبورن وغيره من أعضاء الكونغرس الذين يسعون إلى إنكار حقوق اللاجئين الفلسطينيين، دعمت الولايات المتحدة أيضًا حقهم في العودة من خلال المصادقة على "القرار رقم 194" الصادر عن "الجمعية العامة للأمم المتحدة"، الذي نص على أن "تقرر الجمعية العامة أنه يجب السماح للاجئين الذين يرغبون في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، بالعودة في أقرب وقت ممكن، وأنه يجب دفع تعويضات عن ممتلكات أولئك الذين يختارون عدم العودة، وعن فقدان أو ضرر للممتلكات، والذي، بموجب مبادئ القانون الدولي أو الإنصاف، ينبغي أن تُعوض عنه الحكومات أو السلطات المسؤولة".(20)
مع استمرار أزمة اللاجئين حتى العام 1949، أعلن الرئيس هاري إس. ترومان عن شعوره بـ"الاشمئزاز" من رفض إسرائيل إعادة اللاجئين الفلسطينيين(21). وخلص مبعوثه المعيّن لدى "لجنة التوفيق بشأن فلسطين"، مارك إيثريدج، إلى أن "رفض إسرائيل الالتزام بقرار ’الجمعية العامة‘ الذي ينصّ على السماح لأولئك اللاجئين الذين يرغبون في العودة إلى منازلهم، وما إلى ذلك، كان العامل الأساسي في حالة الجمود" في أزمة اللاجئين الفلسطينيين. وأضاف إيثريدج: "بعيداً عن مسؤوليتها العامة عن اللاجئين، فإن عليها مسؤولية خاصة تجاه أولئك الذين طُردوا بفعل الإرهاب والقمع والإخلاء القسري".(22)
مع ذلك، تبين أن التزام إدارة ترومان بالحقوق السياسية للاجئين الفلسطينيين كان قصير الأمد، في ما كان نتيجة لمزيج من تعنت إسرائيل، وتردّد الولايات المتحدة في فرض أي عقوبات عليها.
الآن، مع مرور أكثر من 75 عاماً، ما تزال أزمة اللاجئين الفلسطينيين تشكّل محوراً أساسياً كما كانت آنذاك. ومع وجود ما يُقدّر بنحو 7 ملايين لاجئ، من بينهم 5.7 مليون مسجلين لدى (الأونروا)، ينبغي أن تكون احتياجات اللاجئين الفلسطينيين وحقوقهم في صميم أي محاولات مستقبلية لصنع السلام.
وعند صياغة السياسات المستقبلية تجاه اللاجئين الفلسطينيين، سيكون من المفيد لصنّاع القرار الأميركيين الرجوع إلى الأرشيفات، للحصول على فهم دقيق لمدى معرفة الولايات المتحدة بتفاصيل النكبة أثناء وقوعها، والمسؤولية الأخلاقية التي تتحملها الولايات المتحدة في استمرارها حتى اليوم.

*جوش روبنر Josh Ruebner: كاتب ومحلل سياسي وناشط أميركي بارز في مجال الدفاع عن حقوق الفلسطينيين. يشغل حاليًا منصب المدير الوطني للمناصرة في "الحملة الأميركية لحقوق الفلسطينيين"، حيث يعمل على إنهاء المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل ودعم سياسات تعزز العدالة للفلسطينيين. شارك في تأسيس منظمة "يهود من أجل السلام في فلسطين وإسرائيل" في العام 2000، التي اندمجت لاحقًا مع منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام". من كتبه: "آمال محطمة: فشل أوباما في التوسط للسلام الإسرائيلي الفلسطيني" (2013)، الذي انتقد فيه سياسة إدارة أوباما تجاه الصراع، معتبرًا أنها فشلت في مواجهة نفوذ اللوبي الإسرائيلي.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Five things the United States knew about the Nakba as it unfolded

المراجع:
1. Lamborn. et. al. to President Donald J. Trump. December 11. 2020. available at:
2. Nur Masalha. The Palestine Nakba: Decolonising History. Narrating the Subaltern. Reclaiming Memory. Zed Books. London. United Kingdom. 2012. p. 88. 89.
3. James G. McDonald. My Mission in Israel. 1948-1951. Simon and Schuster. New York. New York. 1951. p. 176.
4. Walid Khalidi. “Plan Dalet: Master Plan for the Conquest of Palestine.” Journal of Palestine Studies. Volume 18. Number 1 (Autumn 1988). p. 29. available at:
5. Cable 530. Wasson to Marshall. May 3. 1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 4. 800. Palestine. Folder 3. National Archives. College Park. Maryland.
6. Telegram 599. Wasson to Marshall. May 13. 1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 4. 800. Palestine. Folder 3. National Archives. College Park. Maryland.
7. Telegram 26. Macatee to Marshall. January 7. 1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 3. 800. Palestine. Folder 1. National Archives. College Park. Maryland.
8. Telegram 431. Wasson to Marshall. April 13. 1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 4. 800. Palestine. Folder 2. National Archives. College Park. Maryland. reprinted in Foreign Relations of the United States. 1948. The Near East. South Asia. and Africa. Volume V. Part 2. Document 145. available at:
9. Ilan Pappe. The Ethnic Cleansing of Palestine. Oneworld Publications. Oxford. England. 2006. p. 195.
10. Telegram 1485. Burdett to Marshall. November 16. 1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 4. Palestine. Folder 6. National Archives. College Park. Maryland.
11. Telegram 762. Burdett to Marshall. May 27. 1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 4. 800. Palestine. Folder 3. National Archives. College Park. Maryland.
12. Cable 865. Burdett to Marshall. June 7. 1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 1. 310. National Archives. College Park. Maryland.
13. Telegram 1126. MacDonald to Marshall. July 27. 1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 5. 800. Palestine. Refugees. National Archives. College Park. Maryland.
14. Lippincott to Marshall. July 14. 1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 3. 800. Palestine. Folder 1. National Archives. College Park. Maryland.
15. Telegram 98. Lippincott to State Department. July 3. 1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 4. 800. Palestine. Folder 4. National Archives. College Park. Maryland.
16.    Circular telegram. Lovett. October 18. 1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 5. 800. Palestine. Refugees. National Archives. College Park. Maryland.
17. Telegram 1410. Burdett to Marshall. October 21. 1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 5. 800. Palestine. Refugees. National Archives. College Park. Maryland.
18. Telegram 39. Keeley to Jerusalem. October 21.1948. RG 84. Foreign Service Posts of the Department of State. Jerusalem Consulate General. 1948. Box 5. 800. Palestine. Refugees. National Archives. College Park. Maryland.
19. A/RES/212 (III). November 19. 1948. available at:
20. A/RES/194 (III). December 11. 1948. available at: ;  
21.    The President to Mr. Mark F. Ethridge. at Jerusalem. April 29. 1949. Foreign Relations of the United States. 1949. The Near East. South Asia. and Africa. Volume VI. Document 617. available at:
22. The Ambassador in France ( Bruce ) to the Secretary of State. June 12. 1949. Foreign Relations of the United States. 1949. The Near East. South Asia. and Africa. Volume VI. Document 753. available at:

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق