بين المرونة الرقمية والفجوة التعليمية..
في ظل الثورة الرقمية المتسارعة، لم يعد التعليم عن بُعد مجرد خيار ثانوي، بل أصبح واقعًا فرضته الظروف، وأثبت فاعليته في العديد من المواقف، لا سيما مع بروز جائحة كوفيد-19 التي سرعت في عملية تبنيه ودمجه ضمن منظومة التعليم الحديثة، فقد أتاح هذا النمط من التعلم مرونة أكبر في إدارة الوقت، وساهم في تخفيف الازدحام على الطرق، ووفّر بيئة أكثر راحة لكثير من الطلبة والمعلمين. ومع ذلك، لا تزال آراء (المجتمع التعليمي) منقسمة حول هذا التحول.
يرى بعض الطلبة أن التعليم عن بُعد وسيلة مرنة ومريحة تمكنهم من التعلم من أي مكان، في حين يعده آخرون أن يفتقر إلى التفاعل المباشر والمحفزات الاجتماعية التي يوفرها التعليم التقليدي داخل الصفوف، يرتبط هذا التباين في الآراء بعدة عوامل، منها الفئة العمرية، ومستوى التقبل للتكنولوجيا، والقدرة على الانضباط الذاتي.
في هذا الاستطلاع، نسلط الضوء على آراء مجموعة من الطلبة وأولياء الأمور حول تجربتهم مع التعليم عن بُعد، مستعرضين الإيجابيات والسلبيات التي واجهوها، والتحديات التي أثرت على سير العملية التعليمية، كما نحاول الإجابة عن سؤال مهم حول الفئة العمرية الأنسب لهذا النوع من التعليم.
فاطمة بنت سلطان بن محمد، إحدى الطالبات، وصفت التعليم عن بُعد بأنه "سلاح ذو حدين"، مشيرة إلى أن التجربة منحتها حرية كبيرة في تنظيم وقتها ومتابعة المحاضرات في الأوقات التي تناسبها، كما مكّنتها من مراجعة المحتوى أكثر من مرة، وهو ما ساعدها على التوفيق بين الدراسة والالتزامات الأخرى. ومع ذلك، عبّرت عن افتقادها الشديد للتفاعل المباشر مع الأساتذة والزملاء، وهو ما تعده عنصرًا أساسيًا لفهم المواد خاصة تلك التي تتطلب نقاشًا أو توضيحًا معمقًا.
وأضافت فاطمة أن أبرز التحديات التي واجهتها كانت صعوبة التركيز بسبب بيئة المنزل التي لا تخلو من المشتتات، إلى جانب مشكلات الاتصال بالإنترنت، وضعف التواصل مع المحاضرين مقارنة بالتعليم التقليدي، حيث يغيب التفاعل الفوري والفعّال.
أما الطالبة مودة بنت أحمد الصقرية، فقد كانت نظرتها أكثر حدة تجاه التعليم عن بُعد، معتبرة إياه "مضيعة للوقت" في كثير من الأحيان، خصوصًا فيما يتعلق بقدرة الطلبة على الفهم والتركيز، والتي تراها أعلى بكثير عند الحضور الفعلي داخل القاعة الدراسية. وتقول: "الشرح المباشر داخل الصف له تأثير مختلف تمامًا عن الاستماع من خلف الشاشة"، مشيرة إلى أن قلة الحضور، والانشغال بالألعاب أثناء المحاضرات، والتشتت الذهني، من أكبر عوائق التعليم الرقمي، حتى وإن كانت مرونة الوقت من أبرز مزاياه.
هكذا، تتباين الرؤى بين من يرى في التعليم عن بُعد مرونة وفرصة، ومن يعتبره تحديًا حقيقيًا يؤثر على جودة التعلم. وهذا التباين يفتح الباب لمزيد من النقاش حول مستقبل هذا النوع من التعليم، ومدى ملاءمته للفئات العمرية المختلفة، وهو ما نتابعه في استطلاعنا هذا عبر عدد من التجارب والآراء.
بين المرونة وصعوبات الواقع
يرى علي بن حسين بن محمد قمبر أن التعليم عن بُعد منح الطلبة حرية أكبر في تنظيم جداولهم الدراسية، وساعدهم على تحقيق توازن بين الدراسة وممارسة أنشطتهم الأخرى، مشيرًا إلى أن هذه المرونة ساهمت في تطوير مهارات إدارة الوقت والاعتماد على الذات لدى الكثير من الطلبة.
إلا أن هذه الإيجابيات، كما يوضح، لا تغفل جانب التحديات التي تصاحب التعليم عن بُعد، حيث يواجه الطلبة مشكلات تقنية مثل ضعف الاتصال بالإنترنت، إضافة إلى صعوبة التركيز داخل بيئة المنزل، خصوصًا في الحالات التي يعيش فيها الطلبة ضمن مساحات سكنية ضيقة، ما يعيق قدرتهم على التركيز، كما أشار إلى أن ضعف التفاعل المباشر مع المعلمين يؤثر سلبًا على مدى فهم الطلبة للمادة، ويقلل من فرص طرح الأسئلة والاستفسارات بحرية، مقارنة بالتعليم التقليدي.
فجوة رقمية تعيق الاستفادة
من جانبها، أوضحت هنية بنت سعيد الجرادية أن تجربة التعليم عن بُعد ليست مثالية للجميع، إذ يعاني عدد من الطلبة من الملل، والتعب الذهني، وضعف الاستيعاب، ما يجعلهم يفضلون التعليم التقليدي الذي يوفر تواصلًا مباشرًا وجوًا تفاعليًا أكثر تحفيزًا.
وأشارت الجرادية إلى وجود تحدٍ جوهري يتمثل في غياب الإمكانيات التقنية لدى بعض الأسر، حيث لا تتوفر الأجهزة المناسبة أو شبكات الإنترنت القوية في جميع المنازل، فضلاً عن ضعف التغطية في بعض المناطق، وهو ما يتسبب في انقطاع الاتصال بشكل متكرر، مما يؤثر بشكل مباشر على جودة التجربة التعليمية ويحد من استفادة الطلبة.
تجربة محفّزة
ترى نوال بنت محمد العازمية أن التعليم عن بُعد شكّل تجربة جديدة ومثيرة، خصوصًا لطلبة الحلقة الأولى، حيث أتاح لهم مرونة أكبر في تنظيم وقتهم بين الدراسة واللعب، وعزز لديهم الإحساس بالمسؤولية والاعتماد على الذات، وتضيف: أن هذا النمط من التعليم أسهم في تنمية مهاراتهم وتوسيع آفاق تفكيرهم، إذ بدأ الأطفال يدركون أنهم قادرون على التعلّم والتغلّب على الصعوبات بأنفسهم، ما منحهم شعورًا بالثقة في قدرتهم على مواجهة التحديات.
المستوى التحصيلي
أما بدر السالمي فله رأي مغاير، إذ يرى أن الدراسة عن بُعد كانت سببًا رئيسيًا في تراجع المستوى التحصيلي للطلبة، خاصة مع وجود عوائق تقنية واقتصادية لدى بعض الأسر، كغياب الأجهزة المناسبة، أو محدودية الاتصال بالإنترنت، وأحيانًا توافر جهاز واحد فقط لأكثر من طالب في المنزل، مما يضع الأسر أمام تحديات حقيقية.
ويضيف بدر أن ضعف الشبكة في بعض المناطق يشكّل معضلة مستمرة، موضحًا أن هذه المشاكل تؤثر سلبًا على استمرارية التعلم وانضباطه. كما أشار إلى أن أولياء أمور طلبة الحلقة الأولى لا يفضلون جلوس أطفالهم لساعات طويلة أمام الشاشات، لما له من آثار صحية ونفسية، بينما يُجبر أولياء أمور طلبة التعليم ما بعد الأساسي على توفير متطلبات التعليم عن بُعد، نظرًا لأهمية هذه المرحلة في تحديد مستقبلهم الدراسي والمهني.
رؤى متباينة
ويرى عبدالله بن خالد بن سعيد أن التعليم عن بُعد يحمل في طيّاته جوانب إيجابية وأخرى سلبية، فهو من جهة يوفر مرونة عالية للطلبة تتيح لهم التعلم من أي مكان وفي أي وقت، خصوصًا لمن لديهم ظروف عمل أو مسؤوليات أسرية، كما أنه يفتح الباب أمام تجارب تعليمية تفاعلية ومبتكرة. ومع ذلك، لا يخفي عبدالله تحفظه حيال بعض سلبيات هذا النوع من التعليم، أبرزها غياب التفاعل المباشر بين الطلبة والمعلمين، وما يترتب عليه من ضعف في جودة العملية التعليمية، بالإضافة إلى صعوبات تقنية تتعلق بعدم توفر الإنترنت أو الأجهزة المناسبة لدى بعض الأسر. ويعتقد عبدالله أن طلبة الجامعات هم الأكثر تأهيلاً للاستفادة من التعليم الإلكتروني نظرًا لقدرتهم على إدارة الوقت والتعامل مع الأدوات الرقمية، كما يمكن أن يُطبّق هذا النمط جزئيًا على طلبة الثانوية بشرط توفر الإشراف والدعم المناسبَين، محذرًا في الوقت ذاته من أن البيئة المنزلية غير المعدّة قد تؤدي إلى فتور في التحصيل، وانخفاض في الدافعية والمنافسة.
بين التواصل والتقنية
من جانبه، يُسلّط حسام عبدالسلام الضوء على تحديات أعمق تتعلق بطبيعة التفاعل في بيئة التعليم عن بُعد، مشيرًا إلى أن غياب التواصل المباشر يحرم المعلمين من ملاحظة تعابير الطلبة أو لغة أجسادهم، ما يضعف قدرتهم على تقييم الاستيعاب الفوري والتفاعل اللحظي. كما أن التواصل الرقمي المحدود لا يتيح الفرصة للتصحيح الفوري أو إدارة نقاشات صفية فعالة، خاصة مع تزايد أعداد الطلبة في الفصول الافتراضية، وأضاف أن الكثير من الطلبة يعانون من الخجل أو السلبية في التفاعل عبر الكاميرا أو الميكروفون، فضلاً عن التأخر في الرد على استفساراتهم خارج أوقات المحاضرات، ويرى حسام أن نجاح التعليم عن بُعد لا يتحقق بمجرد استخدام التقنية، بل يستلزم إعادة تصميم المحتوى وآليات التدريس بما يحفظ البعد الإنساني للعملية التعليمية، داعيًا إلى تكاتف الجهود بين المؤسسات والأسر والحكومات لضمان توفير بيئة تعليمية رقمية فعالة وعادلة للجميع.
0 تعليق