السبيل – بثوبه الأبيض وبخطوات ثقيلة سار الدكتور حسام أبو صفية وحيدا أمام دبابة “الميركافاه” إسرائيلية الصنع من الجيل الرابع الأكثر تطورا في العالم، كاتبا آخر فصول قصته في حماية مستشفى “كمال عدوان” شمال قطاع غزة، الذي لم يغادره طيلة أيام الحرب، رغم التهديدات الإسرائيلية التي لم تتوقف، ولو للحظة في قصف المشفى على رؤوس من فيه.
كان هذا المشهد الأيقوني لطبيب الأطفال حسام أبو صفية، وهو يغادر مكرها بوابة “كمال عدوان”، بعد أن أمطرته قوات الاحتلال بقنابل الفسفور الحارقة ليتحول في دقائق لكومة من الرماد، شاهدا على وحشية “إسرائيل” التي اجتث جيشها كل مظهر من مظاهر الحياة في غزة.
انتشرت صورة الدكتور أبو صفية كالنار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي، وقد لاقت رواجا واسعا في أوروبا وأمريكا على نحو خاص، من منطلق قصة الرجل الذي كان بوسعه النجاة بنفسه، لامتلاكه الجنسية الكازخستانية، والتي كان بمقدوره أن يستغلها في مغادرة غزة، ولكنه آثر ذلك، وقرر ألا يترك أبناء شعبه وهم يواجهون أكبر عملية تطهير عرقي في التاريخ الحديث.
المولد والنشأة
ولد الطبيب حسام إدريس أبو صفية وكنيته – أبو إلياس – في مخيم جباليا إحدى محافظات شمال قطاع غزة في 21 من تشرين الثاني/نوفمبر 1973، ويعود أصل عائلته لبلدة حمامة قضاء عسقلان التي هجرتها قسرا إبان نكبة العام 1948.
عاش الدكتور حسام حياته في مخيم جباليا، ودرس في مدارسها، قبل أن ينتقل إلى دراسة الطب البشري في إحدى الجامعات الروسية مطلع تسعينات القرن الماضي، ثم العودة إلى قطاع غزة مع بداية انتفاضة الأقصى في العام 2000.
التجربة الطبية
حصل الدكتور حسام أبو صفية على درجة الماجستير وشهادة البورد الفلسطيني في طب الأطفال وحديثي الولادة، وكانت له إسهامات كثيرة منها ترؤسه لقسم الأطفال والمواليد في مستشفيا “الشفاء” و”كمال عدوان”.
قاد الدكتور أبو صفية الفرق الطبية في شمال القطاع، بالرغم من قلة أعدادها، وقرر العمل تحت الضغط، فترأس إدارة مستشفى “كمال عدوان” وكان منسقا عاما لوزارة الصحة في شمال القطاع، ومسؤول عن التنسيق بين الكوادر الطبية والمنظمات الدولية والأممية.
فاتورة عالية
منذ أن بدأ جيش الاحتلال عمليته العسكرية في شمال القطاع قبل ثلاثة أشهر من الآن، كان واضحا حجم التحريض من وسائل الإعلام الإسرائيلية على شخصية الدكتور أبو صفية، في محاولة لكسر إرادته، ودفع ثمنها بفقدان نجله إبراهيم شهيدا يوم 26 من تشرين أول/أكتوبر 2024 حينما اغتالته رصاصة من قناص إسرائيلي أودته قتيلا فورا.
لم تكتفِ إسرائيل، فبعد أقل من شهر على استشهاد نجله إبراهيم، تعرض الدكتور أبو صفية لإصابة في ظهره جراء تطاير شظايا قنبلة أسقطتها طائرة مسيرة إسرائيلية في غرفة الأطباء التي ينام بها رفقة زملائه من الأطباء والممرضين.
الأيام الأخيرة
في آخر أيام حصار المستشفى وتحديدا يوم 23 كانون أول/ديسمبر الجاريث، وثق الدكتور أبو صفية في مقطع فيديو نشره على صفحته في “فيسبوك” آلية إسرائيلية تضع صندوقا خشبيا من المتفجرات أمام إحدى بوابات المستشفى.
وكتب الجيش على الصندوق باللغة الإنجليزية كلمة “خطر”، كما رسم على أحد جوانبه إشارة الخطر (مثلث بداخله علامة تعجب)، وفق ما ظهر في الفيديو.
وأرفق أبو صفية الفيديو بمنشور مقتضب قال فيه: “آليات الاحتلال، الآلية (روبوتات)، تضع صناديق متفجرات على بوابات مستشفى كمال عدوان”.
وبلغت عمليات الاعتداء على المستشفى يوم الجمعة في 27 كانون أول/ديسمبر الجاري ذروتها، حيث اقتحم الجيش الإسرائيلي المشفى مجددا، ودمّر أجزاء كبيرة منه وأحرق أقسامها.
وكتب المتحدث باسم وزارة الصحة بغزة الدكتور أشرف القدرة معلقا على جريمة اعتقال الدكتور أبو صفية، قائلا: “نودّع العام بصورة رجل ما هزّته دولة نووية، ولا أخافته دبابات فولاذية، يضطر للذهاب لمصيره بقدميه الحافيتين، وكل حبة تراب تحتها تقبل ملامسه”.
وأضاف واصفا الصورة التي وثّقت الاعتقال المخزي لجيش إسرائيل بحق طبيب سلاحه أدوات إنقاذ حياة الآخرين: “صورة خذلان ملياري مسلم، صورة هوان 450 مليون عربي، صورة تآمر كوكب كامل على بقعة صغيرة اسمها غزة”.
وكتب مدير عام وزارة الصحة في غزة الدكتور منير البرش تعليقا على صورة الطبيب أبو صفية “بهذه الصورة، لخّص الدكتور حسام أبو صفية وضعنا باختصار: الطبيب الذي يقدم الخدمة الطبية الإنسانية لأبناء شعبه، ولا يملك سوى معطفه الطبي، في مواجهة آلة القتل والتدمير والاحتلال”.
أما محمد ابن شقيقه، فكتب في وداع عمه على حسابه في منصة “إكس” يقول “لو أراد عمي حُسام المغادرة لغادر، واختار رفاهية العيش والنحاة دون مرضاه، توفرت له العروض توالياً كونه يملك جنسية كازاخستانية من زوجته، إلا أنه رفض بإصرار المغادرة، وتمسك بمخيم جباليا ومستشفى كمال عدوان الذي أدى بداخله رسالة الطبيب البار بوطنه ومرضاه… كثفوا دعاءكم له”. قدس برس
0 تعليق