هل قَتَلنا 14 ألف طفل في قطاع غزة حقا؟

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
نمرود ألوني* - (هآرتس بالعربي) 25/11/2024

معيارنا المزدوج: إذا كان موت مواطن إسرائيلي بإصابة من طائرة مسيرة يوصَف عندنا في الأخبار بأنه "قتل متعمد"، كيف يجوز أن نسمي ما يحدث للقتلى جراء عمليات القصف التي قوم بها نحن في قطاع غزة وفي لبنان بأنه "غير متعمد"؟اضافة اعلان
*   *   *
من عادة النشرات الإخبارية التمييز بين الجنود المقاتلين الذين يُقتَلون على الجبهة وبين المواطنين المدنيين الذين يُقتَلون جراء الإصابات بالصواريخ أو القذائف أو الطائرات المسيرة. ما الذي سيحصل لو أننا التزمنا، بشكل مثابر، بالتمييز بين القتلى من أحبائنا عند تطرقنا إلى أعدائنا في قطاع غزة -ولبنان أيضًا- وأولئك الذين فقدوا أرواحهم نتيجة القصف والنيران التي تطلقها قواتنا؟
"يجب القول بنزاهة"، على حد تعبير محللي الحرب، إن الالتزام بهذا التمييز اللغوي سيقود إلى الاعتراف بأننا قَتَلنا، خلال السنة الأخيرة، نحو 14 ألف طفل على الأقل وعددًا مماثلًا من النساء والمسنين غير المشاركين بصورة مباشرة في الحرب أمام الجيش الإسرائيلي.
سوف يعترض كثيرون ويدعون أنه لا يجوز الحديث عن قتل (متعمد) لدى التحدث عن أعدائنا في زمن الحرب. كما سيكون هنالك المتشددون الذين يتحدون في القول إن اليهود، بطبيعتهم، لا يمكن أن يكونوا قَتَلة. على ذلك، يجب الإجابة بأن العواطف والمصالح شيء، والأخلاق والعدالة شيء آخر.
يعني ذلك أننا، بصورة طبيعية، قريبون من أنفسنا ونتألم لموت أبناء شعبنا أكثر مما نهتم بسلامة الأغيار، فما بالك بأولئك الذين ينتمون إلى معسكر الأعداء الذين يحاربوننا؟ لكن هذه عواطف ذاتية وسرية بين جميع الشعوب ومواطني الدول، بحسب هويتهم وانتمائهم. والقاعدة المعروفة هي أن كل واحد من الأطراف في أي حرب يكون مقتنعًا بأن الرب والعدل يقفان في صفه هو، وأن أي أب وأم، من كلا الطرفين، يبكيان أولادهما الذين قُتلوا من دون أي علاقة بعدالة الحرب التي قُتلوا فيها و/ أو بسببها.
في مقابل ذلك، عندما نبحث في الأخلاق والعدالة، فإننا لا نكتفي بالعواطف وإنما نضع أنفسنا أمام تحد يتمثل في مواجهة معايير موضوعية لا يمكن لأي طرف من دونها الادعاء بأن طرفًا آخر، أيًا كان، قد أساء إليه أو تسبب له بأذى -أو حتى الأسوأ من هذا: أنه ارتكب جرائم حرب بحقه.
لتحقيق هذه الغاية، تتوفر لدينا بنى تحتية عديدة ومتنوعة، ومن ضمنها: مبادئ الأخلاق الإنسانية الخاصة بقدسية الحياة، والمساواة في قيمة الإنسان والقضاء العادل؛ المواثيق الدولية الخاصة بقوانين الحرب والقتال ومعاملة الأسرى؛ المبادئ والسوابق المتعلقة بدستور الأخلاق في الجيش الإسرائيلي وتجنب المس بغير المشاركين في القتال؛ والتراث اليهودي الذي يقدس الحياة، وينبذ العنف الجماعي، ويطالب بأن "كل من يحمي نفسًا واحدة، يُمجَّد وكأنه حمى عالمًا بأكمله".
بافتراض أننا غير محكومين بالتحيز القومي على أساس "من يقف معنا ومن يقف ضدنا"، وأننا نقارب الواقع بمصطلحات غير متحيزة مشتقة من المنطق والأخلاق والعدالة، سوف يتضح أن السجال الإسرائيلي العام موبوء بالمعايير المزدوجة: إننا لا نحكم على أنفسنا بالمعايير ذاتها التي نحكم بها على الآخرين. ولا يتجسد إخفاقنا الأخلاقي في تعاملنا مع قتل آلاف الأطفال، والنساء والمسنين غير الضالعين في القتال في قطاع غزة فحسب. إنه يتمثل أيضًا في تعاملنا الفاسد والمعيب مع أعمال الشغب والمذابح المُدبَّرة التي وقعت في الفترة الأخيرة.
في حين أن الخطاب العام يعج بالإدانات الحادة والتعابير الكارثية حول الهجوم على مشجعي فريق "مكابي تل أبيب" في أمستردام، إلا أنه لا يشير بقدر يعتد به إلى الاعتداءات التي ينفذها يهود من "فتيان التلال" ضد القرويين الفلسطينيين في الضفة الغربية. هنا الضحايا أكثر بكثير، والخراب أفظع بكثير، والوتيرة شبه يومية، وكله يجري برعاية -أو بموافقة صامتة- من الحكومة الإسرائيلية.
كيف يمكن وصف الفجوة الكبيرة ما بين التشارك الوجداني الذي يبديه الجمهور في إسرائيل مع أي ضحية من طرفنا جراء العمليات العدائية، وبين الانغلاق والبلادة والازدراء حيال موت وبؤس ضحايا أبرياء تضرروا من قواتنا؟ الجواب معروف وواضح: إنهم يتبنون موقفًا عنصريًا مبنيًا على الفوقية اليهودية وتعريف الفلسطينيين بأنهم "عماليق"، أدنى مرتبة وأقل قيمة وعنصرًا خبيثًا يجب القضاء عليه.
في نظر الأغلبية، كان إلغاء التعاطف وتعطيل الضمير نتيجة لمزيج من العاصفة العاطفية وهندسة الوعي؛ بين مشاعر الغضب والانتقام الطبيعية في أعقاب الصدمة التي خلفها هجوم "حماس" الوحشي والجرائم التي ارتكبتها ضد سكان "غلاف غزة"؛ وبين هندسة الوعي بحيث يتم تقمص دور الضحية، من إنتاج نتنياهو -زعيم الدولة المتهم بسلوكات جنائية وبارتكاب جرائم ضد الإنسانية، "الذي يجعل العتمة نورًا والنور عتمة"، والذي بالرغم من حكمه الجامح المفتقر إلى أي كوابح والذي يزرع الموت والدمار، يصور نفسه على أنه ضحية، على طريقة الوطني اليهودي المستقيم، السير ألفرد درايفوس.
في أيام الأزمات والحضيض التي نمر بها، يتعين علينا أن نتعلم من شخصية فرنسية أخرى، ليس ضحية وإنما منارة أخلاقية. في الأيام الرهيبة التي مرت على أوروبا، كتب ألبير كامو: "لا أستطيع أن أصدق أن كل الوسائل تقدس الغاية. ثمة وسائل لا يمكن أن يكون لها أي تبرير. أريد أن أحب دولتي وأن أحب العدالة، لكنني لا أريد عظَمَة لدولتي تكون مُكتَسَبة بالمظالم".
بهذه الروح، أود أن أضيف شيئًا للوطنيين الإسرائيليين الذين يواجهون المعضلات الأخلاقية التي تجلبها الحرب: إن من يتخلى عن حب الوطن وخدمة دولته يُضعِفها، وقد يدفع إلى إفسادها وانهيارها؛ ومن يتنازل عن العدالة ينحدر إلى الهمجية. أو، بلغة عصرنا، إلى ارتكاب جرائم حرب.

*البروفيسور نمرود ألوني: هو رئيس كرسي اليونسكو للتربية الإنسانية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق